العقوق
حكاية تراثية من وحي الخيال الشعبي
بقلم الداعي بالخير : صالح صلاح شبانة
Shabanah2007@yahoo.com
يحكى أن أحد التجار كان يذهب إلى مضارب بدو كل سنة مرة لتحصيل ديونه الموسمية ، وتزوج امرأة منهم بزواج ما يطلق عليه اسم (زواج المسيار) ، فكان يغشاها في السنة مرة، فيبيت معها ، وتحمل من ليلتها ، وعندما زارها في السنة الثانية كانت تحمل على ذراعيها صبيا أسمته محمدا ، هو ثمرة تلك الليلة ، ولمّا نام معها مرة أخرى ولدت منه ولد آخر ، وأسمته أيضا محمدا ، وفي السنة الثالثة عندما عاد من السهرة ، وحاول أن ينام معها استغربت ، لأنه لا يكرر الفعل أكثر من مرّة ، فكيف الليلة يريد التكرار ..؟؟؟
وفهم التاجر أن آخر سبقه مستغلا العتمة وواقع زوجته بدلا عنه ، فكف عنها ، ولم يقربها تلك السنة ..!!
ولمّا عاد في السنة التالية كان على ذراعها طفل آخر أسمته أيضا محمدا...!!!
وهنا كتب الرجل وصيته الشهيرة التي ذهبت مذهب الأمثال (محمد يرث ومحمد يرث ومحمد لا يرث)...وهذا المثل من أشهر الأمثال العربية...!!!
وعندما مات الرجل وقف تفسير الوصية عائقا ، ولم يفهمه أحد ، وقرروا الذهاب إلى رجل خبير بالذكاء الخارق ليقوم بتفسير الوصية الغريبة ...!!
وارتحلوا إلى دياره ، وكان من عادة العرب عدم سؤال الضيف إلا بعد ثلاثة أيام ، وأكرم الرجل وفادتهم ، وذبح لهم خروفا ، وقدم لهم عنَبا واسترق السمع ، وما أن أكل أحدهم أول لقمة حتى قال : هذا لحم كلب ، وقال الثاني عن العنب : هذه الدالية مزروعة بقبر ، وقال الثالث : مضيفنا ابن حرام ...!!!
ودهش الرجل مما سمع وحاول أن يختبر ما سمع ، فأحضر الراعي وسأله ، فأخبره أن هذا الحمل ماتت أمه ، فأرضعته الكلبة ريثما ابتدأ يأكل ، وبحث عن أصل الدالية فوجدها بالفعل مزروعة في قبر ، ولم يبق إلا سؤال أمه ، وعندما قرّرَها وهدّدَها اعترفت أن أباه المنسوب إليه لم يكن قادرا على الإنجاب ، وخافت على نفسها ورزقها من بعده ، فنامت مع راعي الغنم ، وهو أبوه الحقيقي ...!!!
وبعد الأيام الثلاثة، اجتمع بالشباب وسألهم عن سبب الزيارة ، فأخبروه عن السبب ، واستغرب مع أنهم بهذه الدرجة من الذكاء ، ما حاجتهم إليه..؟؟!!
واجتمع بهم كل واحد على حِدَه ، وطلب من كل واحد منهم أن يذهب إلى قبر أبيه وينبشه ويحرقه ، حتى يكون من أحد المحمدين الذي يرث ، ولن الأول والثاني رفضا فكرة الميراث إذا كانت تؤدي إلى نبش قبر الأب وحرق جثته ، أما الثالث فقد وافق دون تردد ، وحتى على إطعام جثة أبيه للكلاب في سبيل أن يبقى أحد الوارثين ، وهنا وصل إلى الحل ، إذ يرث الأول والثاني ، والثالث لا يرث ، وبرر له أن ابن الحرام يعرف ابن الحرام....!!!
ألحت عليّ هذه الحكاية التراثية عندما قرأت عن الشابين اللذين أخرجا جثة أبيهما من قبره وقاما بإحراقها لأنه حرمهما من الميراث ، لعل ما في الحكاية سببا باطنا ، أدركه الرجل ، وحاول تصحيحه ، ولكنني أشك وأصون عِرض أمهما من الخوض واللغو وادعاء ما لا أعلم ..
ولكن العقوق سمة من سمات الحياة ، وله أسبابه ومبرراته في كل حالة على حدة ، وعادة ما يكون الأباء هم السبب ، لعدم الالتزام بالتربية الصحيحة ، والنشأة المادية التي لا تخالطها أي قيم أخرى ، فينشأ الأبناء على حب المال والأنانية ، ويكون المال هو العدو الأول اللئيم الذي يؤدي إلى العداء بين الأهل والأخوة ويجري الدم المحرم مسفوكا...!!!
أستغرب كيف يعتدي رجل على قوانين الله عز وجل ويعطي البعض ويحرم البعض ، والمال مال الله ، ومجرد خروجه من الحياة ينتقل إلى الورثة الشرعيين ، بنصوص وقوانين واضحة ، يرضى الكل بها ولا تحدث الضغائن والعداوات بين الناس ، لأن الله عز وجل ارتضاها ...!!!
والأغرب حتى ولو كان الوالد ظالما وزائغا عن الحق ، كيف يعاقبه الأبناء بنبش قبره وبحرق جثته في سابقة قد تكون الأولى في المجتمع الأردني وهي جريمة أخلاقية ، يجب أن يكون عقابها رادعا وموجعا ، حتى لا تتكرر...!!!
فاللعنة على المال عدو الإنسان وهادر الحسنات ومقيم صرح السيئات ، ومجَذِّر العداوة بين الأحبة ، وقاتل القيم الحميدة ، ونرجو من الله أن تكون هذه الواقعة الشائنة أول وآخر حادثة ، ونترك أمر العِقاب والحِساب لله عز وجل الذي لا يغفل ولا ينام ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وحسبنا الله ونعم الوكيل على هذا الفعل الشائن ، فعل الأب ثم فعل الأبناء و (تنذكر وما تنعاد بجاه رب العباد) !!
