رحلة موت
حكاية عمّانية تحدث كل يوم بامتياز يمكن تعميمها
اقترفها : الداعي بالخير صالح صلاح شبانة
Shabanah2007@yahoo.com
ترنحت الحافلة الصغيرة من نوع (كوستر) ، وأخذت أقصى اليمين ، ثم أقصى اليسار ، ثم دارت حول نفسها عدة دورات ، وقدم السائق تدوس الكوابح بكل ما استطاعت من قوة ...!!
ولا زال صوت المطرب الشعبي حكيم يشدو على أعلى موجة (سلام عليكم إس إس) ، ولم يكن أحد يدري هل هو يغني ، أم أن غناءه صار عبارة عن همهمات لا تصل إلى الأذن بوضوح..!!!
انطلقت الحافلة ، والسائق لا يدع أحدا يشير إليه إلا ووقف وأدخله إلى جوف الحافلة حتي تكاد تتقيأ وتلفظ ما فيها لجمع المزيد من النقود ، فكل راكب ثمنه ربع دينار ، بعد ارتحال المأسوف على شبابها (البريزة) وهي في ريعان الشباب والصبا ، مختنقة بالتضخم الاقتصادي اللعين الذي حل على البلاد ، فاتكا بالورى والعباد ، ولله البقاء ...!!!
وحين يقف ليحمل راكبا ، أو ينزل آخر يدوس الكوابح بقوة حتى تستجيب ، لسرعته الهائلة ، فهو يطير على ارتفاع منخفض..!!!
لذلك ينتق الركاب نتقا فيتكور الوقوف على انفسهم ، في حين تضرب رؤوس الجالسين على مساند المقاعد التي أمامهم ...!!!
وعندما (حضرته) يقود الحافلة يفعل ذلك بأصبعين فقط ، وييسراه ، لأن يمناه مشغولة بوضع جهاز الهاتف على أذنه ، والسيجارة بين شفتيه تعج بدخانها الكثيف ، وهو يسحب وينفث الدخان بسرعة وعصبية ، إذ على ما يبدوا أن محدثه على الطرف الآخر سبب له بعض النرفزة ، وهو مالك الطريق وأرواح الركاب ، وكأنه يحمل أحذية وليس بشرا...!!!
وعندما يصادفه أحد المطبات يقوم كالبهلوان بالقفز عنه ، فيرتفع الركاب عن كراسيهم ويسقطون بقوة ، مسببا لهم اختلاط في أمعاءهم وآلام في جنوبهم وظهورهم ، فيعنّون مثل الجمال (أع ..أع) ، وهو غير آبه إلا باستعراض القوة الذي يمارسه على الشارع بخيلاء وغرور ..!!
حينما انطلقت الحافلة كانت تحمل في جوفها الحمولة الرسمية ، إثنان وعشرون راكبا ، وراكب
على الماتور بين السائق والراكب الأول ، وآخر يعاكسه ويسند ظهره إليه ، أحدهما وجهه إلى الركاب يغرس نظراته بالنساء والآخرين ، والآخر يعاين الطريق التي تلتهمها الحافلة بشراهة ، وهي تشق طريقها المجنون نحو المجهول ...!!!
صوت حكيم يصدح على أعلى موجة من السماعات الضخمة بصوت عالِ جدا يكاد يصم الآذان ، فيراهن أحدهم على ذرة أوكسجين يتنفسها فلا يجدها ...!!!
همس أحد الركاب بصوت راجف واهن خوفا من السائق الذي يقود المسيرة ، ومن كنتروله الهمام الذي لم يفتأ استعراض مواهب ومؤهلات الزعرنة ، فيكون وجهه أشبه بخريطة الوطن العربي ، وتخططه الشفرات كما خطط سايكس وبيكو الوطن العربي ، وجعلوا منه أكثر من عشرين دويلة ، أكذب لو قلت أعرف عددها ...!!!
ــ القانون يمنع تحميل ركاب زيادة ، ويمنع التدخين في الأماكن العامة..!!!
داس السائق الكوابح بعنف ، فاهتزت الحافلة غضبا لغضب قائدها ، ورجت ركابها رجا ً عنيفاً ، ونهض من خلف المقود وبيده مفكا طويلا وصرخ بصوت كالرعد مرعبا :
ــ من هو الفيلسوف الذي تشدق بشيء أسمعه أول مرة اسمه القانون...؟؟؟
ساد الصمت ، وتكور الركاب على بعضهم كالصيصان بلا تدفئة في جو بارد وكتموا الأنفاس لجلال الموقف الرهيب ، وأردف السائق قائلا بنفس اللهجة :
ــ قل للقانون يا حبيب أمك أن يزيد عدد الحافلات ، يأتيك بسواقين (سوبر) يحتملون قرفكم ، إن وجدوا ، أو اشتروا سيارات واركبوها ، أم حمير تركبكم ، أما من يركب معنا فعليه أن يخرس
ويعض على طاحونته ، وإلا جعلت هذا المفك يمزق بطنه ، ولا يبقي منه ولا يذر ...!!!
كان يهدد ويلوح بالمفك بوجوه الناس لعل أحدهم يهمس ببنت شفة ، فيشفي غليله ويهدئ أعصابه المشتعلة ...!!!
ساد الصمت ، تجمدت النظرات ، جوّ الرعب يسيطر على الموقف ، كثيرون وكثيرات ، وخصوصا الكثيرات ، يبسملون ويحوقلون ويتعوذون بالله من الشيطان الرجيم الذي يتمثل بالسائق والكنترول ، وضحايا تقع ليس لها ذنب إلا أن حظها العاثر أتى بها إلى تلك الحافلة المشؤومة ، وخيالات عن الأكفان والقبور ، وبيوت العزاء ، مشيعون وقبور تفتح أفواهها ، والنعي بالصحف لأموات وقعوا تحت مزاج سائق أهوج ، لا يستطيع القانون الحاضر الغائب من كبح جماحه ..!!!
ورجوا السائق أن يتابع مسيره وحقه على رؤوسهم جميعا ، وليدعهم يذهبون لأعمالهم بسلام ،وان يغسل وجهه بالرحمن،ويبقى أكبر ون التوافه والجبناء الذين لا يحسنون ركوب الحافلات.
وأخذ موقعه من جديد ، وأدار المفتاح ، وأعطى الغيار الأول فالثاني والثالث والرابع وداس على البنزين حتى (الصاجه) ، فصرخ أحدهم برعب عندما عاين الموت :
ــ اتقِ الله بنا ، هلكنا إن شاء الله ...!!!
وثارت أعصاب السائق فداس الكوابح بغضب ، فدارت إلى اليمين منحرفة بعد أن فقد السيطرة عليها ، فإلى اليسار ، ثم حول نفسها ، ثم وقفت تماما بعرض الشارع ...!!
لم يصدق الركاب أنهم نجوا من الموت المحقق فحمدوا الله وهنئوا أنفسهم بالسلامة ، ولا زال صوت حكيم يصدح بثقة (سلام عليكم إس إس )...!!!
تمطى السائق وهو يلهث ، وكأنه لا يصدق أن الجرّة قد سلمت هذه المَرّة ...!!!
اقترب راكب من اللوحة التي تحمل التعليمات عن السائق وأخذ يدونها ، فصرخ به السائق :
ــ ماذا تفعل ؟؟
ــ أحببت أن أحتفظ باسمك ، لأبحث عنه في صفحات الوفيات في الأيام القادمة ، ولأعرف عدد ضحاياك الذين ستأخذهم بجرائرك إلى رحلة الأبدية ، رحلة الموت ، فأنت لست أبن حياة ...!!!