(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
2 المخيم
أبو فهمي لا تستوعب مداركه ما يجري في العالم العربي ، وما جرى في الكويت في هذه الأيام ،وهذه الحرب التي قامت فجأة، لا يهمّه من الموضوع سوى سلامة ابنه فهمي الذي يعمل هناك ، فهو من جيل مضى إلا بعضه الذي بلغ الثمانين لا يعرف سوى التذكر والقصص الحزين، عهد البرتقال والسفن الجميلة في الميناء ، عقودا ظل فيها أبو فهمي يذرع مخيم الزرقاء نحو البريد ، يستلم الرسائل والرسائل المسجلة الواردة من الكويت ، يفضها عن دنانير تجعله سعيدا ، يجلس في حبور بمقهى العكرماوي، أو مقهى الانشراح ، يتحدث كما لو أنه صحفي أو سياسي متقاعد، يعجب من تلك الخدعة الرومانسية التي تجرعوها ، فظنوا بها أن خروجهم لن يطول أسبوعا ، ريثما ترتب الجيوش العربية مواقعها ، لكن ال( ماكو أوامر ) جعلت من الأسبوع أسبوعين والشهر شهرين ، ظلوا خلالها تحت زيتون رنتيس ، يمضون وقتهم بلعب السيجة ، إلى أن أمطرت السماء عليهم بواكيرها الخريفية، فأدرك كل منهم أنه ليس رجل البيت، بل ليس رجلا على الإطلاق .
يذكر من بقي من هذا الجيل ، سعيهم وراء أغذية لم يألفوها ، وطعام غريب معلب وحليب مجفف وأحذية مستعملة ، وثياب أوروبية لا يحسنون لباسها ، لا يدرون أتسعى لهم وكالة الغوث أم يسعون إليها ، حتى استقر بهم المقام في الزرقاء ، نصبوا خيامهم في أرض تحوطها سكة الحديد من جهاتها الثلاث والمعسكر من الجهة الشرقية الرابعة ، خياما ما عرفوها عند البدو ، أودعوها أمتعة ظفروا بها ، سكنوا متجاورين ؛ بدو وحضر وفلاحون .
أبو فهمي ينتظر ابنه القادم من الكويت ، يحاول وأم فهمي إعادة ترتيب البيت كي يتسع لعائلة فهمي ، فما زالت الخمسون مترا ذات الخمسين مترا منذ أن اختطتها لهم وكالة الغوث، قبل أربعين سنة أو يزيد ، في كل مرة يأتي فهمي ، يستأجر شقة مفروشة ، ولكن الذين يفرون الآن من أزمة الكويت أكثر من أن تستوعبهم البيوت الفارغة في الزرقاء أو بيوت ذويهم .
فهمي يعبر الحدود بسيارته الأمريكية العريضة ، تقطع الصحراء محملة بحقائب محشوة بأغراض لا تحصى ، وفيها أولاد يشربون العصائر المفضلة ويقضمون الشوكولاته ، والأم تسترخي في الكرسي الأمامي ، تقاوم النعاس الذي يأتيها مع هواء المكيف الرطب ، تسير خلفهم شاحنة محملة بعفش البيت . وأبو فهمي يرى هؤلاء الفارين من الكويت، يسكنون الدكاكين إذا عزت الشقة الفارغة أو الأقرباء _ فيحمد الله أن لديه خمسين مترا يمكن أن تُحشر فيها العائلة القادمة ، فهذا خير من السكن في خلاء الأرض, وفي خيم الرحلات وعيش المشردين.
فهمي يصل الأزرق ، يطفئ السيارة ، فينزل الأولاد ، يتراكضون بين مئات السيارات التي تتزود بالمياه , والراحة للسائق والمحرك، وبائعون يعرضون كل شيء، ووجوه يعرفها فهمي فيحييها من بعيد ، لكن محمد عيد صديقه وجاره في الكويت ، كما كان في مخيم الزرقاء ، يراه ، يعانقه ، فيسأله محمد عيد عن قطعتي الأرض التي اشترياها في طريق ياجوز , يعجب من هذا السؤال ،لكنه بصعوبة بالغة يتذكر أنه اشترى قطعة أرض فيما يسمى طريق ياجوز ،منطقة لا يدري أين هي ، أرض باعها لهم سمسار ماهر ، بألف دينار للقطعة الواحدة ، لكن أحدا من الذين اشتروا لا يعرف قطعته ، فيقول مستغربا :
_ لماذا تسألني ؟ ماذا يدور في رأسك ؟
_ هناك من يشتري خيمة لينصبها في أرضه، فلا يوجد شقق سكنية في الزرقاء .
فكرة لم تخطر بباله ، حقا ... إن بيت والده في المخيم لن يتسع لحمولة هذه الشاحنة ، فماذا سيفعل ، إنها فكرة صائبة ، سوف يشترى خيمتين إن لم يجد خيمة مزدوجة كبيرة .
حينما اقترب من باب المخيم ، دلف إليه وأبقى الشاحنة خارجا ، سلم على أبيه وأمه ، سألاه عن أمتعته وعفش بيته فقال: سأنزل في ياجوز .
وهناك ، وفي أقصى الغرب من الزرقاء ، وفي شمال مناجم الفوسفات ، سفح لجبل لا اسم له ، تقف سيارات كثيرة ذات لوحات كويتية وسعودية وإماراتية ، وشاحنات يُنزَلُ العفش منها ، وخيام تقام قريبة من بعضها ، وسيارات تبيع الخضار والفواكه والمعلبات، وأخرى تبيع الخبز والثلج والماء ، وبعض الغرف التي تقام من الطوب لمن تأكد من قطعته ، ومحمد عيد يقول لفهمي:
_ ننزل هنا، وحينما نعثر على قطعتينا نرحل إليهما .
عاين فهمي الموقع وقال بعاطفة جياشة :
_ هي زرقاؤنا التي نهاجر إليها دائما .
قال محمد بعد أن استوعب ما قاله فهمي :
_أقام آباؤنا مخيمهم في الزرقاء ، وها نحن نقيم مخيمنا ، فأين سيقيم أبناؤنا مخيمهم؟
الزرقاء 15/3/2007