(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
4 سينما النصر
هي الزرقاء ، مترفة بينابيعها وبساتينها وسينماتها الأربع ، تصحو باكرا إلى المصانع والمعسكرات،وتبيت نصف الليل في السينمات ، ونصفه الآخر في البيوت ، لكنها في سنواتها العجاف هذه ، تسهر الليل كله خشية العسس والواشين .
هي الزرقاء ، لا تدري كيف تبدأ حكاياتها ، ولا تدري كيف تَؤول ، ولا أحد يدري كيف جاء هذا المسمى (بدر بدران) إلى الزرقاء ولا متى جاء ، كيف أصبحوا يتلمسون أنفسهم كل صباح لعلهم مازالوا على قيد الحرية ، أي بلاء هذا الذي أصابهم ...! وأي ذنب اقترفوه حتى يعاقبوا بهذا (البدران )؟
لا يعلم احد من الزرقاويين كيف هبط هذا (البدر) مدينتهم ، كيف عَبَرَ عقل (القائم مقام ) ومدير الشرطة والمخابرات ؟ وكيف أقنعهم أنه استثنائي المهمة ، فهو مبعوث لمهمات أمنية ؟ فضباط الجيش ما عادوا مأموني الجانب ، فعدوى الانقلابات في العالم العربي وصلتهم، وهم بحاجة إلى مضاد حيوي فعال ، لقد جاء ليفتش في عقولهم ، وفيما يسمعون وفيما يقرؤون ، في بيوتهم داخل المعسكر وفي حي الضباط خارجه ، وكذلك الحزبيون الذين يفرخون خونة في المخيم وفي الأحياء والمدارس والمصانع .
لا احد يدري كيف أفاق الزرقاويون على زبانيته الذين يعيثون بلا رقيب ،و كيف صار ممنوعا عليهم الاستماع لإذاعة صوت العرب ، والكلام في السياسة ، والتجمع لأكثر من اثنين، لأول مرة يعرفون العسس الذين يجوبون الأزقة ، ينصتون لما يوشوش به الساهرون في الأمسيات ، أو ما يحكون به خلف الشبابيك .
لأول مرة يدفع الزرقاويون الإتاوات لزبانيته اتقاءً لشرورهم ، فيكفي أن يكتب ( المخبر الصادق ) على قصاصة صغيرة من الورق أن أحدهم شيوعي ، لِيُقذَفَ به إلى الجفر ، أو يذكر انه تذمر من الوضع ، أو أنه تأوه وهو يقول اللهم غير هذا الحال بأحسن حال ، أما حيازة آلة كاتبة فتلك جريمة أكبر من أن تعرف دوافعها ، ويُعرف عقابُها ، وخاصة إذا ما وجدت معها آلة ناسخة . وأغرب ما في الأمر أنهم اكتشفوا أن (بدرا) هذا شبه أمي إن لم يكن أميا تماما ، وبذلك فسروا عداوته الشديدة للكتب والمجلات ، ومراقبته الشديدة للمكتبات .
يتكلم الزرقاويون بمرارة لا مراء فيها ، يتكلمون عن حالات تثلم الشرف ، عن زبانيته الذين يرقبون النساء الجميلات ، ويعرفون أهاليهنَّ ، ويعتقلون الأب أو الأخ أو الزوج ، ويُغيًّب حتى تأتي تلك المرأة مستعطفة ، فيقضون أمرا كان مطلوبا .
ظلام هي الزرقاء ، مليئة بأشباح لا عد لها ،تجعلهم يهربون إلى سينما النصر ، بناية مهيبة أمام باب المعسكر ، تعرض منذ شهور فيلم جميلة بوحيرد ، يبكون حزنا على فتاة استثنائية، يظنون أن ماجدة هي جميلة بوحيرد ،ينكرون أن تكون هي ذاتها من المراهقات اللواتي أوقع بهن رشدي أباظة في فلم سابق ، يعجبون بكل هذه الشجاعة والبطولة ,فلمٌ يجعلك شجاعا ولو كان أعداؤك الفرنسيين .
هاهي العائلات الزرقاوية تحرص على حضور حفلة المساء ، في الثالثة والنصف ،يتناثرون ريثما يؤذن لهم بالدخول ، وهاهو زياد شكري يأتي مع خطيبته إلى السينما ، يأتي متأنقا ، وخطيبته متأنقة أيضا ، يقفان قبالة السينما ، ينتبه زياد إلى علبة سجائره التي نفدت إلا من واحدة ، يستأذنها دقائق لكي يشتري علبة سجائر ، تقف خفيضة الرأس ، يمر بدر بدران ، يراها، يوقف سيارته وينزل منها ، يتأملها ، يرى في وقفتها وحيدة رسالة ما ، تعجبه أناقتها وتنورتها القصيرة ، تحرجها وقاحته ، ويقف بلا وجل أمامها ، يكلمها كجنتلمان ، يدعوها لصعود سيارته ، تستنكر ذلك في خوف واستنجاد ، وتحاذر أن يأتي زياد .
ويخرج زياد من البقالة ، ويرى وضعا يحط من كرامته ، فيبادره بلكمة على وجهه ، فيسقط بعيدا ،ويغشى على بصره ، لم تسعفه المفاجأة لإخراج مسدسه ، تحسسه، لكن زياد كان أسرع إليه ، تناوله ، لم يشأ أن يطلق عليه النار ، التفت رواد السينما ، وتحلق جمهورٌ من المستطلعين ، قال أحدهم محذرا :
_ يا ويلك ، هذا بدر بدران ...!
كأنه لم يسمع ، أو كأنه لم يأبه لهوية خصمه ، ولكنه كالملاكم المحترف أمهله حتى نهض فصوب له لكمة أخرى ، وأعطاه فرصة الهجوم ، لكنه استنجد بمن في سيارته ، نزل المرافقان، رأى الجميع مجزرة متوقعة ، هبوا لإيقاف الشجار ، لكن المراقب الفطن يدرك أن الناس كانت تمسك بهم ، وتمكّن زياد من تصويب اللكمات للثلاثة ، فيرى مشهد فيه تناغم بين زياد و المحتشدين ، حتى شرطي المرور الواقف على الدوّار، أطل ثم عاد حينما علم أن بدر بدران يأكل نصيبه .
يبدو أن بدر بدران وجد نفسه مهانا بكل المقاييس ، وأن الاكتفاء بما حصل أفضل من عواقب لا يتمناها ، هدد وتوعد ، وسأل عن اسم هذا الشقي ، لكن أحدا لم يخبره ، صعد إلى السيارة وهو مدمى الوجه ، متورم الأصداغ ، وظنوا أنه ذاهب إلى مستشفى الحاووز .
لم ينتظر الزرقاويون الصباح كي يشيعوا الخبر، بل تداولوه في صالات السينما ، سألوا بعضهم بلهفة ، عن هذا البطل ، وماذا حدث له . قليل من الزرقاويين يعرف زيادا ، لكن مع صلاة الظهر عرفوا أنه مدرب ملاكمة ، وأنه سكن الزرقاء منذ سنة ، وعرفوا بلدته وعشيرته وأخواله ، ووالده ، وأما سكنه فكانوا يقولون : الله أعلم ...! ربما هو من عمان .
وفي الصباح نفسه أيضا ، عرف القائم مقام بما جرى ومدير الشرطة والمخابرات ورئيس البلدية ، وضباط الجيش القاطنون داخل المعسكر وخارجه، وتكلموا عن قذارة لم يتصورها أحد، ذهبوا جميعا لعيادته في بيته ،تفاجأ إذ رآهم قادمين ، ولم يستطع إخفاء جروحه وكدماته ورضوضه ، تحمل مزاحهم الذي يخفي ما يخفي ، قرأ نظرات التشفي في عيونهم ، وأدرك أنها نهايته .
أهم ما في الأمر أن الشرطة قد تغابت وهي تقتنع أن زيادا ليس في الزرقاء ، لذلك لم يُوقَف ، ولم يُحَقَّق معه ، وأن بدر بدران غادر الزرقاء ، ولم يعرف أحد ما جرى خلف الكواليس.
وفي خريف ذاك العام رشح زياد شاكر نفسه للانتخابات البرلمانية وفاز فوزا ساحقا .
الزرقاء 18 / 3/2007