مقهــــى المغتربين
بقلم : سعادة أبو عراق
8 - صالح الطاهر( )
ذيب فليفل سافر على اميريكا قبل خمسين ، ستين سنه عشان يدرس ، خلص من الرشييدية عام السبعة وأربعين وأخذ مترك بأربع ممتازات ، ومن هذاك الوقت مارجع إلا مرة وحدة ، لكن كان يراسل أمه وأبوه واخوته ويوديلهم مصاري ، والمرّة إللي إجا فيها لمّا توفى أبوه ،لإن أمريكا مش مخليته يروح ، لأنها خايفة على الاسرار العلمية إللي معاه ، لكن بعد ما صار عمرة ثمانين ، إجا يستريح هون السنين الباقية له بهالدنيا
ذيب فليفل ، أو الدكتور ذيب ، زلمه راقي ، بتشوفه مليان ، بعرف في كل شي ، يعني لو طُلْت له صراره من الطريق وقلت له إحكي عنها ، بيشرح لك ساعتين وما بخلص ، شو نوع الصخرإللي هي منه ،قديش كلس ومعادن ، وقديش عمرها ، وقديش وزنها ، وعليها طحالب وإلا لأ ،ودرجة القساوة ،وكيف بنحسب حجمها بالورقة والقلم ، فصار له هيبة واحترام ما انعطت لحدا ، خصوصا جاب معاه تريلا معبية كتب ، واستأجر دار خصوصي عشان يصفط الكتب فيها على رفوف ، وكل يوم بنزل عليها مشي بيقعد يقرا ويكتب ، وبيجي عليه بعظ الطلاب والأساذة من جامعة النجاح وجامعة بير زيت ، ووصى بعد ما يموت تفتحها البلدية مكتبة عامة .
رغم طبيعته انعزالية ، إلا إنه انعزاله في مكتبته إللي جابها معاه ، شي طبيعي لعالم طول حياته بالقراءة والبحث ، لكن شكلة مش مرتاح ، مش قادر يتواصل مع حد ، ويبني علاقات حميمة ، ويعيش الأجواء الريفية إللي كان بيحلم فيها ، وإجا بعد هالعمر يفتش عن طفولته وذكرياته ، لكن معظم اجياله ماتوا وما ظل منهم حدا ، وإللي ظايل كلهم بيعانوا من أمراض العجز والشيخوخة .
حاول قدر ما بستطيع إنه يجلس في قهوة المغتربين ، وخاصة لما حكوا له عنها ، وتوقعوا إنه يتمسخر عليهم ، ويشوفهم متخلفين ، لكن لما سمع بعض القصص والمغامرات إللي بيحكوها ، ضحك كأنه طفل صغير ، وشافه مجال مدهش وفريد، وقال : كيف اهتديتوا على هذا النادي ، قالوا له لا مش نادي ، هاذي قهوة ، قال بعرف بس عملها عمل نادي ثقافي ، مجرد الواحد يختلق قصة ويقنعك إنها حقيقة وتستمتع وانت بتسمعها ، فهذا اسمه إبداع ، فلما سمع الناس رايه ذاب الجليد بينه وبينهم ، وقالوا له تفضل وراح ع القهوة .
ولما جلس ما حدا سأله ولا طلب منه شي ، كأنهم بيستنوا فيه يفتح موضوع ، قال بكل بساطة أنا قعدت نص قرن وأنا بحكي مع مفكرين وناس جوا الكتب ، ومتمني أرجع استمتع بالنكتة والخريفة ولعبة السيجة ، وأنا عارف إنكم بتستنوا مني احكيلكم عن الأمريكان قصص غريبة ، لكن بدي أحكيلكم عن واحد فلسطيني من جنين اسمة صالح الطاهر ، هذا لما رحت أدرس هناك دخلت الجامعة ، وإلا إللي بدرسنا واحد اسمه صالح ، شكله عربي لكن ما استجريت أسأله أو اتقرب منه ، لأنه صاحب هيبة ، وكمان إحنا تعودنا يكون بينا وبين أساتذتنا مسافة ، وكمان بدي يتعرف عليّ من خلال علاماتي مش لأني عربي مثله ، وأخذت عنده في هذاك الفصل أعلى علامة ، في مادة الرياضيات ، إللي كان يدرّسها ، ومبين شاف اسمي ، وعرف إني عربي ، استدعاني مثل ما توقعت واستقبلني ورحب فيّ ، وبين إعجابه بمستوى ذكاي ، وقال لي خلي هدفك إنك تكون استاذ في هارفرد ، وامشي في هذا الإتجاه ، وفعلا طول فترة الدراسه وهو مشرف علي ويوجهني حتى أخذت الدكتوراه وصرت أستاذ فيزياء في الجامعة أنا وإياه .
كانوا مبحلقين فيه وفاهمين ومش فاهمين ، بحكي عن و احد عادي ، وهذه مش قصة ، لكن احترامهم إله ما شكوا إنه بحكي شي سخيف ، لكن شكّوا إنهم ما بيفهموا ، فلذلك ظلوا ساكتين ، عشان ذهنهم يمسك كل كلمة ، وبعدين كمل .
بعد سنه أو سنتين ، انتدبته الجامعة حتى يروح على ناسا ، واحد قال شو ناسا ، قام تذكر إنه بيحكي لناس ما بيفهموا مصطلحاته ، فقال متأسف ، ناسا الجماعة إللي بتطلع السفن والأقمار الصناعية ع القمر والفضاء ، وودعني وقال لي في إلك مستقبل ، وراح لكن ظلينا على اتصال بصفتنا طالب وأستاذ ، وبصفتنا بلديات ، وبصفتنا اساتذة جامعات ، لكن بعد فترة سألني إذا بحب آجي عنده على ناسا ، قلت شو عليه ، وفعلا رحت عندة ، وإلا أكثر من ألف عالم بيفكروا كيف يطلعوا ع القمر ، واحد بحسب بالمسافة بين الأرض والقمر واحد بحسب جاذبية القمر ومساحته وسطحه ، وواحد بحسب الوقود ، واحد بيحسب الوقت ، والمهم كل واحد إله شعلة ، وأنا أعطوني أعرف نوع الصخور إللي ع القمر ، قالوا طيب كيف بدك تعرف إللي ع القمر وإنت ع الأرض ، قال من خلال الأشعة ، كثير منهم قال في نفسه ، تخنها ، شو شايفنا أميين بجم وما بنفهم لكنهم احتراما إله ظلوا ساكتين .
مرة قلت له عشان يساعدني أروح أشوف أبوي في البلد ، لأنه مخطر كثير ، وفعلا أخذت إجازة وافق عليها نكسون ذاته ، قالوا مين نكسون قال الرئيس ، قال لي طيب بدي أطلب منك هالطلب ، قلت له أؤمر ، قال ما يؤمر عليك ظالم ، قال جيب لي حجر من جنين ، قالت له بس ...؟، قال بس ، وإذا بتعرف تجيبه من أرضنا بكون ممتن منك ، قلت له وإذا ما بقدر بيجوز من سنجل ؟، جمط ريقه ، وقال حاول ، لما شفته تذايق قلت له بمزح معك .
واخذت الإجازة إللي وقّع عليها الرئيس نكسون ، وروّحت بطائرة سلاح جو أمريكي حتى مطار اللد ، بصفتي أمريكي , وهذا سنة التسعة وستين ، يعني كانت اسرائيل محتلة الضفة ، ومن هناك اطلعت ، ولما وصلت وجدت أبوي داخل في المرحلة الأخيرة ، وثاني يوم الصبح أعطاكم عمره ودفناه بعد العصر ، وثاني يوم حاولت أروح على جنين لكن الظروف ما سمحت لأني لازم أرجع ، فأخذت حجر صغيرمن سنجل وحطيته بجيبتي وسافرت ، ولما أعطيته الحجر ما سألني ، لكن قلت له قل لي شو بدك بالحجر ، أنا ما سألتك شو لما طلبت مني ، قال بعدين بتعرف ، لكن أخذه وغسله ونشفه وكتب عليه جنين ، وما حبيت أسأله ليش كتب ع الحجر ، لأنه ما كان الواحد قادر يحك راسه ، وخاصة البرفسور صالح لأنه هو إللي أعطى الإشارة عشان ينطلق الصاروخ أبولوا على القمر ، وطلع الصاروح وفيه ثلاثة ،ولما هبط ع القمر ونزل آرم استرونغ ومشى ع القمر وكلكم اسمعتو عنهم ، وتجولوا ع القمر ورجعوا مرة ثانية .
الشباب اللي قاعدين بسمعوا مش فاهمين من هالحكي شي ، طبعا البرفسور لاحظ التساؤل في عينيهم ، قام قال ، بتعرفوا شو عمل في الحجر ؟ أعطاه لآرم سترونغ وقال له لو سمحت حط لي هذا الحجر ع القمر ، وفعلا حطة وكانت المدينة الوحيدة المكتوب اسمها ع القمر هي جنين .
هذه الكلمة كانت مثل الطلقة ، صاح جميع إللي في القهوة ، ألله أكبر ، اسم جنين ع القمر ، واحد ثاني قال والحجر من سنجل ، قال له لأ الحجر من فلسطين .