فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة الثانية
الرســــالة
الساحة مملوءة بالناس ،يتناثرون بلا انتظام ،يتحركون ما بين
دار البلدية والجامع والبريد ، يجلسون على كراسي القش , وعلى الحجارة ،ويتسلق الأولاد جذوع الأشجار ، وتقف النساء في مكان قصي ، يتعجب المختار من وجود النساء ، لكنه يكتم تعجبه ولا يستنكر .
صُفت كراسي المقهى على شكل نصف دائرة ،وجعلت في الوسط أرائك فاخرة ، أعدت للحاكم العسكري وأتباعه، تظلهم شجرة ميس ضخمة ،تقي لفح الصيف ، وتعطي انطباعا عن ترحاب مفتعل .
لا يذكرون كم حاكم عسكري استقبلوا ، لعله تقليد اتبع منذ أن جاء أول حاكم عسكري ، يدعوهم إلى اجتماع عام ، يستمع إلى مطالبهم ، يؤملهم ويعطي الوعود المستطاعة، ثم يلبي من المطالب ما يشاء ، ويأتي اليوم حاكم جديد ، يدعوهم ، ويدفعهم الفضول والبطالة , فيأتون ،ومحاولة لتصديق الأوهام ، والآمال الكاذبة , ومطالب منذ أن نشأت المطالب .
المختار يحمل ورقة مكتوبا عليها أشياءكثيرة ، يفضها مرارا ، يستذكر ما بها ،كأنه يتدرب على خطبة , يبدو عليه اهتمام زائد فالمطالب كثيرة :
• إيصال الماء والكهرباء ، واستعداد القرية للدفع الفوري
o بناء غرفتين جديدتين للمدرسة الثانوية .
o إخلاء سبيل إبن الحاجة زكية الموقوف منذ سنة .
o رفع الإقامة الجبرية عن إسماعيل منصور.
o إصدار هوية بدل ضائع لياسين عبداله .
o لم شمل لبركات الحلو وعائلته .
ابتدأت الشمس بالإرتفاع ، ويدأت الظلال تنحسر ،ويتقلص امتدادها ،يتراص الناس تحت الأشجار وتحت معرش المقهى ،أو يحشروت أنفسهم في دكان أبي لافي ، وينتحي المختار برجل يرفض الاجتماع بالحاكم العسكري ،
- ما دام الحاكم العسكري قد طلب المقابلة ، نقابله والسلام ، إن حصل شيء حصل ، وإن لم يحصل لا نخسر شيئا .
يسكت الرجل ويبدو عليه الاقتناع ، ويمضي الوقت ويزداد الجو حرارة ،وفي ركن قصي من الساحة يجلس فيصل ناجي على جدار مهدوم ، هكذا هو دائما ، متفرد في جلسته وفي فكره و تصرفاته ، طالب في الثالث الإعدادي ، يشهد له معلموه بالتفوق والذكاء والنباهة ، يلاحظون اهتمامه بالقضايا السياسية ومتابعة الأخبار ، يتميزعن زملائه بأشياء كثيرة ، يعشقه أقرانه ويعجب به الآخرون ،يجلس مفكرا كالكبار،فربما أزفت ليلة القدر ، وربما يتمنى ملعبا لكرة القدم ، وأن يتمنى ناديا صيفيا ، أو شيئا من هذا القبيل ، ولكن لماذا لم يطلب المختار ما يجب أن يطلبه ، لماذا أغفل الأشياء الكبيرة ،ولم يجرؤ على البوح بها ،لماذا لم يعترض على الأراضي التي صودرت قبل شهرين ؟ وضمت إلى المستعمرة الجديدة ،لماذا لم يثر قضية سليمان السعيد الذي قتل قبل أسبوعين وهو يرعى أغنامه ؟وزيتونات شاهر الرحال الخمسين التي خلعت بالجرافات العسكرية ؟ لماذا يسكت الكبار عن القضايا الكبيرة ؟ لماذا يبدون في مطالبهم حملانا وادعة؟ لماذا يحبون المسالمة ويكرهون الرفض ؟
يجيء الحاكم العسكري ، يستقبله المختار وأعضاء المجلس ، ويجلس في مكانه المعد له ، ويجلس من حوله معاونوه ، والناس وجوم وفي أعينهم ترقب وفضول ، يلقي المختار كلمة الترحيب ، يقرؤها بعناء واضح ، وتشديد على أحرف المد ، مستعينا بسبابته اليسرى حينا وباليمنى ، ويتقدم أصحاب المطالب يحكونها أو يقدمونها مكتوبة للمساعدين ، والحاكم يصغي ولا يتكلم إلا لماما بلكنة أجنبية مألوفة ،وتتحرك الناس ببطء وتكاسل ، كأنهم يحاذرون الضوضاء ، يتكلمون همسا أو بالإشارة ، وبين الأشجار وعلى أغصانها يجلس الأولاد ويصوبون أعينهم الصغيرة ، وفيصل ناجي لم يزل يعلج ما في نفسه ،يبلورأفكاره ،يقضه البوح بها ، فليس لك أن تطلب من جلادك شيئا إلا إذا كنت في موقف المقايض ، تعطيه ويعطيك ، تعطيه الأمان والاستسلام ويمن عليك ببعض ما تشاء ,تعطيه تنازلا عن حقوقك وقبولا بالاحتلال ،تؤكد له إن لا حاجة لك إلا رضاه ، فتفقد حماس العيش ،ومبعث الحركة ، ومبرر الحياة الإنسانية .
البِرْكَة تصفو ، يتطحلب فيها السطح والجوانب ، ولا بد من حركة ، ولا بد من موج ، ولابد من حجر يلقى فوق أديم الصفو ، يتناول حجرا ، ينتقيه بعناية ،يتناسب مع قبضته ، يصوب الرمية نحو الحاكم ، لم يتأكد إن أصاب الهدف أم لا ,فقد حدث هرج ومرج كبير ، تلاطم الموج ، وتعالت أصوات ،وأطلقت عيارات ي الهواء ،وصوب الأطفال ، ولاذ الكل إلى أكناف البيوت والأشجار ،وتتساقط من كل اتجاه حجارة وبندورة ورمان ، ومقذوفات أخرى من شتى الأنواع ،تتناثر الأوراق ، وتضيع المطالب ، وينفضض الممثلون .