فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة الثالثة
الحجارة في الحقيبة
_____________________________________
ماذا يعني وجود سيارة عسكرية في منعطف حاد, غير الكثير من التوقف والانتظار ، وغير التوتر والقلق ، أنه يعني التفتيش في الذاكرة عن شيء له علاقة بالأخبار المعلنة ، وهذا يعني أنك متهم حتى تثبت براءتك ، وأنك سوف تتعرض إلى سيل من الأسئلة وتضييع الكثير من الوقت والمواعيد .
أما حينما يتم توقيف الأطفال فقط ، فهذا شيء آخر ، يتعلق بالمظاهرات وإلقاء الحجارة، وهذا يعني التصرفات الشاذة اللامنطقية، التي لا تتفق مع البراءة والطفولة والنقاء ، ويعني أيضا فرض الغرامات الباهظة المزاجية على الأهل والناس .
إنهم يقفون على كتف المنعطف ، ويصطف الأولاد في خط متعرج ، يتفاوتون طولا ويتمايزون نشاطا ،يحملون حقائبهم وأشياءهم ، يدورون على أنفسهم ، يمارسون المزاحمة والشجار وتغيير الأماكن ، وجندي يضبط ضيقهم وقلقهم وصياحهم ، ويستعمل فوهة البندقية في الزجر والتنظيم ، وضابط آخر يجري مراسيم التفتيش ببطء شديد ،يفتح الحقائب على مهل ، يخرج الكتب والدفاتر والأقلام ، ينظر في زوايا الحقائب ، يلقيها أرضا ، ومن ثم يتناولها الأولاد يعيدونها ثم يمضون .
في آخر الصف الممتد ، ينتظر سامي الشايح ، هو هكذا ، وعجيب أن لا تراه على هذا النحو ، يتلكأ في المشي والكلام ، يكثر التحديق والإمعان بالأشياء ، فهو فنان أو مصاب بلوثة الفن ، فإذا ما قلت فنانا خالوك تقصد سامي الشايح ، عبقرية في الرسم والنحت والتلوين يشغله الفن عن الرياضة والرياضيات والمجتمع المحيط به ، حتى يتهم بالتياسة والعبط ،لكن الكلام معه يعهدم هذه الفرضية ، ويثبت أنه يعي كل شيء .
سامي في آخر الصف يتأفف ضجرا إلى أبعد الحدود ، ينظر إلى الصف بصبر نافد ، ينقل حقيبته الجلدية الثقيلة من يده اليمنى إلى يده اليسرى ، حقيبة مثقلة بحجر كلسي كبير ، انتقاه من فترة بسيطة ، يشكله على مهل ، بالمبرد والمثقب والإزميل ، يحمله يوميا كأنه شيء منه ، ينسى كتبه ودفاتره ولا ينساه ،يضع الحقيبة على الأرض ، ويتمتم في استفهام ساذج :
- ملعون أبوهم ...! شو هالتفتيش ؟
استدار إليه الصبي الذي يقف أمامه .
- يعني شو عندهم غير التفتيش ...!
قالآخر كأنه يفضي بسر :
- أكيد وصلتهم إخبارية.
يدس سامي يده في الحقيبة ، يتلمس الحجر الذي صار له ملمس ناعم، وشكل مدور تتخلله ثقوب كثيرة ، وصارت قيمته الفنية مساوية للجهد الذي استنفده ، والمعاناة الطويلة والمكابدة ، وإشراف معلم الرسم المستديم عليه ، وإعجاب الجميع به ، والمدير الذي قال (إن لك إحساسا فنيا عظيما ، يجب أن تتابع اتجاهك )
قال وهو يضم الحقيبة بساقيه :
- الله يصبرنا...!
وأخرج زفيراطويلا ,قال الفتى الذي اصطف خلفه :
- أمس اعتقلوا عشرة من المدرسة السليمية الإعدادية .
قال كأنه يسمع بديهية :
- يا سلام ...! هو الاعتقال شيء جديد ؟
هزه من كتفه ودنا منه وقال هامسا :
- يا أهبل اسأل أولا عن سبب الاعتقال.
- إيش يعني ، هوالاعتقال عاوز سبب ؟
سكت قليلا وراقب الجندي الذي يحرس انتظامهم ، فقال الفتى وهو يتله بحذر :
- أول أمس ، مشى عشرون ولدا من جانب المخفر ، وكان كل ولد حاملا في حقيبته حجرين ، ولما وصلوا المخفر ، ضربوا الشرطة الواقفين في الساحة .
أبدى اهتماما في الأمر ، فأصغى مفكرا بينما تابع الفتى:
- السبب هو أن الشرطة عبّدت كل المناطق المحيطة بالمخفر ، ولم تبق حجارة حوله ،فحمل الأولاد الحجارة في الحقائب ، كي يثبتوا لليهود أن إجراءاتهم بلا معنى .
مبادرة رائعة تستحق التصفيق ، أتراها مبادرة أطفال أم إيحاء كبار ، حتى تُُملأ الحقائب بالأقلام والكتب والحجارة ، وهذا التمثال المُتعِب الذي ينوء به ،التمثال الذي يعده للمعرض السنوي ، التمثال الذي أثار إعجاب الكثرين وثناءهم.
- والله فكرة ...! من أخبرك ؟
- إبن عمي الذي يدرس في الكلية .
- إذا فهم خائفون أن نعمل ما عملوه .
- ربما ...!
لم يطل به التفكير ، ولم يراجع أفكاره ، دس يده في الحقيبة ، تحسس الحجر ،وجده باردا ثقيلا ميتا ، يأخذ حيزا كبيرا من الحقيبة ،وحيزا من الجهد وحيزا من الوقت ،شعر لأول مرة بالتقيؤ،أخرجه من الحقيبة ،وراقب الجندي ، أسقطه جانبا ، أقفل الحقيبة وعاد إلى موقفه ،ومضى يتقدم ببطء نحو التفتيش ، قلبوا الحقيبة ، نثروا محتواتها، رطنوا فيما بينهم ,ومضى سامي يلم أشياءه التي سقطت على الأرض ،ثم انطلق مسرعا .
في الطريق إلى البيت كان يحمل حقيبة فارغة ، كانت الطريق ترابية ضيقة ، وكان يسير باحثاعن حجر صلب خشن الملمس حاد الزوايا ،ليحمله في الحقيبة
24/7/1983