فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة الخامسة
الحجر المهاجر
تتغير خزائن البيت وملأة الاسرّة والأرائك , تتغيرألوان الجدران والأبواب والشبابيك ، وتتبدل الصحون والزهريات ، وتباع التحف أو تهدى أو تتلف ، ويؤتى بغيرها ، إلا ثلاثة أحجار بيضاء غير مستوية ، لا تزن كيلو غراما واحدا ،توضع في دورق حينا وحينا على وسادة من مخمل ، كأنها الماس أو حجارة من القمر بل إن أبا شلبي يقول إنها أثمن ما في الوجود ، إنها بعض من بيته ومزرعته التي غادرها في يافا .
ترتفع شدة الحرص على هذه الحجارة يوما بعد يوم ، وتزداد أهميتها مع سوء الأخبار السياسية وحسنها ،ومع الأحداث والتطورات سلبا وإيجابا ، أبو شلبي وحده يمارس معها طقوس العشق والتعبد ، أمامها يبكي ويفرح ، يناجيها ويكلمها كلما حزب الأمر ،ويبدي ضربا من الهلوسة وحالة من حالات الحنون تثير خوف الأسرة وحفيظة أفرادها ، يتمنون لو تغيب بقدرة قادر، تسرق، تتطاير، فقد بدا الرجل الذي جاوز السبعين يفقد عقله ، يفقد منطقه وفكره وذاته ووطنيته ،يصبح سوداويا سلبيا طفوليا .
ينكره الرفاق الذين عايشوه ، ويعرفونه من زمن بعيد ، فهذه الصوور المبثوثة في القاعة ، تشهد على شخصية ثرية العقل والتاريخ ،فها هوواقف بسلاحه مع حسن سلامة ،وهنا يقف مع أقطاب الحزب الوطني ،وفي تلك الصورة مع المجاهدين في الجبال ، وهذه المكتبة الزاخرة المنتقاة بعناية على مدى عشرات السنين ، لا تدل على شخصية سخيفة مهووسة .
يكرهها الصغير أشرف ، ويهم بقذفها أو يحاول تبديدها ، لعل شيئا من هذا النحس الجاثم أن يرحل ،فأبوه قد يغضب ردحا ، لكنه سيرضى آخر الأمر ،فما الفرق بين حجارة من يافا وحجارة من رام الله ، وأين دلالة الرمز والأيحاء ،ألا يكفي أننا الرمز الأقوى لفلسطين ، وهل نحتاج إلى حجارةحتى نتذكر الحق والأرض والوطن .
يدنو منها ، يزمع قذفها ، يحجم ويتذكر القصة الطريفة التي جاءت بهذه الحجارة ،قصة متداولة في العائلة شائعة عند الناس ، يتندرون بها في بعض المواقف ، ونشرها أحد الصحفيين في الجريدة ،قصة تدل على شاعرية الأب ورقته ووطنيته ، حيث التقى برجل إنجليزي ، كان يعرفه في يافا زمن الانتداب ، وكان قد دعاه يوما إلى بيته ، وطلب منه أن يذهب إلى فلسطين ، ويمضي إلى بيته هناك ،يصفه له ويحدثه عنه ويصوره أيضا ،ويحضر له ضمة نعنع من مشتل البئر ،وأي شيء آخر يراه مناسبا ، رجاه كثيرا واشترى له تذكرة سفر ، ذهابا و إيابا ، وما يحتاجه من مصاريف ، وذهب الإنجليزي ،ووعاد بعد اسبوع ، يحمل النعنع والصور والأحجار الثلاثة والكثيرمن الحكايات ،وفرح أبو شلبي واعتبر أبو شلبي ذلك أثمن ما في الوجود .
يعرف أشرف أنهذا أسلوب من أساليب التعبير عن الوطنية،ولكل إنسان أن يعبر عن موقفه بما يشاء ، ويعرف أن النقاش مع أبيه حراثة في بحر ، فيعرض الفتى أشرف معاناته على أحد معلميه :
- فلسطين يا أشرف ليست وثنا ، ونحن لانحبها من أجل أرضها وسمائها، ولا لأنها أرض آبائنا وأجدادنا ، إنها أرض من أرض الله لايميزها عن غيرها شيء إلا أنها شاهد على وفائن او إخلاصنا وأخلاقنا ، التفريط بأرض فلسطين ليس تفريطا بمساحات من الأرض بل تنازل عن الأمانة التي حملنا الله إياها ، تنازل عن واجبنا في إقامة الحق والعدل ومكافحة الظلم والإعتداء والفساد .
لم يستوعب أشرف الكثير من قول الأستاذ ، لعله قول صعب ، أوفكرة ليست في مستواه ، أو أن الأستاذ قد اقتضب القول .
أردف الأستاذ :
_أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية أن تصبح لها أبعاد مادية ، أي تنحصر فلسطين بالأرض والسماء والتراب والحجارة والمياه ،والأشجار والأجواء ،وأن تكون موقعا للسكن ومصدرا للعيش ،عندها يبدأ حصرها وتطويقها وتذويبها وتبديلها ، ونُدفع لأن نبحث عن سكن آخر ومصدر عيش أفضل ، أما ان تظل فلسطين رمزا للحق المدنس والظلم الواقع فإنها تجل عن التضييق والاستبدال، وتعظم عن الاحتواء والتقزيم والافناء .
- تمضي الايام ولم يزل أشرف على حيرته ، لم يعطه الاستاذ فكرا محددا ولا طريقا واضحا ، لكنه فهم ان الحجارة رمز سخيف لا تزيد شيئا ان لم تنقص ، أهؤلاء المتظاهرون الذين يرشقون الجنود بالحجارة لديهم رموز في قارورة يتزودون منها وينطلقون،الحجارة لا تصلح الا ليقذف بها الاعداء ، ها هم المتظاهرون يقتربون ، وانها فرصة لا تتكرر ، يمد لها يدا غير مترددة ،يلتقطها ويمضي مهرولا صوب الشارع ، ينطلق نحو المواجهة، يختبئ خلف جدار ، يراقب الموقف ، والجنود ، يقذفهم بالحجر الأول ، لم يتأكد من الإصابة ، فيطلق الثاني ويغير موقعه ، ويطلق الثالث ،لم يدر أن كانت قد أصابت أهدافها جيدا ام لا ،لكنه يعلم أنها استعملت الاستعمال الصحيح.
27/7/1983