فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة السادسة
لعبة الغولف الجديدة
يجوس في ذاكرته كالحلم ، يصطاده بمشقة ،يذكره فلا يكاد ، ولا تستطيع الصورة الحائطية أن تنشط الذاكرة أو تشحنها ، ففارق السن كبير ،يفصل ميلادهما خمس عشرة سنة ، يذكره شابا يرتدي بدلة سوداء فيها خطوط حمراء ، لا يعرف كيف رآه ،ومتى كان ذلك ،لعله كان قبل الاحتلال بقليل .
كم انت عظيم يا سليمان ،لاندري من صنعك أنت أم الناس أنهم يتحدثون عنك ولا يملون الحديث ، في الأمسيات وعند الفخر وضرب الأمثال ، أو حينا يستشهدون بالرجولة والعلم والذكاء . تصبح يا سليمان تراثا للقرية ، يروون أحاديثك وأفعالك بقدسية ،يحافظون عليها كأنهم يخشون أن تضيع ، لماذا أنت يا سليمان ظاهرة لاتتكرر ، كثيرون من قريتنا اعتقلوا وسجنوا واستشهدوا لكنك انت الظاهرة التي لم تتكرر.
يشد الفتى رفعت على مخارج حروفه وهو يقول:
- سأذهب معكم هذه المرة ، لا بد أن أرى ابن عمي سليمان.
ينهرونه ويبررون رفضهم :
- انه في سجن نفحة ،سجن بعيد في الصحراء .
لم يقبل التبرير ويقول بانكار .
- وماذا في ذلك.
- انك في المدرسة .
- هذا لا يهم .
أصر الفتى وبكى كثيرا ، فلا مناص من الحج إلى رمز البطولة ومصدر الفخر والاعتزاز، يتمنى لو يقبس منه شيئا ، أن يصبح مثله أن يقلده ، فهو الانسان الذي تتجسد فيه البطولة والعظمة والشرف ، فالقرية تحكي عنه كأول من استحضر السلاح وأنشأ الخلايا ونظم التنظيمات ودرب العناصر ، يحكون عن تلميذ الكلية العسكرية المتفوق الذي استحق سيف الشرف ، ذلك التلميذ الذي أدركه الاحتلال وهو في إجازة طارئة ، فآثر البقاء غلى الرحيل . ظل حيث رحل كثير من الشباب خلف الوظيفة وكسب العيش ، ظل فأوقف تيار النزوح . عمل في أشياء كثيرة بسيطة ، عاملا في ورشة ،محاسبا في شركة ، حراثا حينا ... وبائعا في حسبة حينا آخر.كان يعمل ويناضل ، ينظم الخلايا ،يجمع الاسلحة وبنادق الصيد ، ويعيد تعبئة الطلقات الفارغة ،يصنع ملح البارود من بعض المركبات الكيماوية.
ها هي الحافلة تلهث في الصحراء ، تمخر النقب إلى سجن نفحة ، ينزلون..،ويُنزلون معهم الفواكه والالبسة الداخلية وطنجرة الكوسا والدجاجات العشر ، وهم يعلمون انها ليست لسليمان وحده ، يطلبون اذن المقابلة،وتذهب الهدايا للتفتيش ،ةيستريحون ، ويترقب رفعت اللحظة الحرجة ,تراه كيف يكون بعد ثلاثة عشر عاما من السجن ، جاوز الثلاثين ، لا يقترب شكله من الصورة المعلقة على الحائط ، شاب لم تخط شارباه بعد ، يافعا ، كم تراه سيبقى بعد اليوم ؟ فالمؤبدون لا يخرجون إلا بعد استفحال الأمراض والعاهات ، لعلهاعقوبة تليق بالتهمة التي وجهت إليه ،كانوا يزفونك وكنت مبتهجا، وكنت تقول إنها الفرحة الكبرى ، فيبتهجون لابتهاجك ، لكنهم لم يفهموا ما تعنيه ، كنت قد جمعت كميات كبيرة من الأستون ، من الصيدليات ، خلطتها بمواد أخرى صنعت منها مادة متفجرة شديدة القوة ,حشوت بها عبواتك وصنعت قنابلك وألغامك ، واستطعت أن تنفذ عملية ناجحة ضد معسكر صغير ، وكانت الفرحة الكبرى، وكنت مبتهجا لنجاح الصناعة ونجاح العملية , والزفاف ، كنت مبتهجا ولكنك إعتقلت في اليوم التالي .
يأتي سليمان ، يقف خلف الحاجز ، يحييهم ، يهتف له رفعت من على البعد ، يناديه : أنارفعت ...! أنا إبن عمك ، يقفزأمام الحاجز ، يتمنى لو يصل إليه ، لو يقبله , لويجلس معه ، لو يسأله عن سر الصناعة وتركيب الخلطة ، لو يتعلم منه شيئا ، لو يصبح يوما مثله أو يفعل فعله ، إنه المثل الأعلى ، يسألهم عن الآهل ، من مات ومن سافر ومن تزوج ومن عاد ، يسألونه عن النوم والصحة والأكل ، يطمئنهم ويدعون له بالفرج القريب ، فيؤكد لهم أنه غير نادم .
ليتنا مثلك يا سليمان ، نستعمل عقولنا ومعلوماتنا في تطوير أسلحتنا ، وحل مشاكلنا ، ولكن كيف تطور أسلحة الحجارة ، هذه المقذوفات الصغيرة ، التي لا تبعد أكثر من عشرين مترا ،لا تحمل قوة ولاتصيب بدقة ، لو استفنياك في الأمر بماذا تجيب ؟ هل هناك علم يبحث في تقوية العزوم ، وما عساك أن تطور في هذه الأسلحة البدائية ؟ لعلنا لا نملك شيئا نطوره أو نخترعه ، فلو طالت ذراعي حتى أصبحت مترا لكنت أقدر على القذف والتصويب ، فالأطفال العمالقة أكثر مهارة في هذا المجال ، فهل لي أن أطيل ذراعي ....!!
هناك من يلعب الغولف ، يضرب الكرة بعصاة طويلة ، يقذفها بعيدا ، ويصوبها بدقة ، لماذا لا يكون الحجر بدل الكرة ، إنها فكرة ...! فالقوة تزداد بذراعها ، هكذا قال أستاذ الرياضيات ، فلتكن تجربة ، ولتكن هذه الخشبة ذراعا مناسبة ، فلنضرب حجرا ، إنه يبتعد كثيرا ، ولماذا لا نلتقف الحجر الساقط في الهواء ، إنها طريقة أفضل ، ينطلق بها أبعد ، وبقوة أكبر ، وتحكم أفضل .
يشك الفتى رفعت بهذا السلاح ، يشركه في إحدى المظاهرات ، يكتشف فعاليته العجيبة ، يصيب من ضابط مقتلا ، تتكاثف السرايا العسكرية تطوق المنطقة ،ويُمسك برفعت ، ويحاكم رغم صغر سنه ، ويحتج المحامي ، لكنه يرسل إلى سجن نفحة ، يلتقي بابن عمه هناك ، يعانقه ويقول بافتخار :
- مسيرة لا بد منها
8/8/1983