فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة السابعة
الإصابة اليتيمة
كيف أنت الآن ياديفد طوف ، لعلك أكثر إغتباطا وحبورا، لقد نقلت اليوم إلى نابلس ، وهذا يثير في نفسك الإرتياح والسرور ، ويجعلك أكثر شعورا بالأمن والاطمئنان ، فمنذ اليوم ، أنت الحاكم العسكري لهذه المدينة ، تجلس في مكتب مكيف بعيدا عن المعارك ، بين القضايا الجتماعية ، ومشاكل البسطاء من الناس .
ربما تكون هذه المهمة نهاية خدمتك العسكرية ، فقد شارفت على التقاعد ، فإنك منذ أن تخرجت من صرفند ، أمضيت نيفا وثاثين سنة من الحرب ، ويكاد عمرك العسكري أن يكون من عمر الدولة .
هل كنت تحب الجندية ؟ سؤال طالما ناقشته مع ذاتك ، ولم تناقشه إلا لأنك لست مستريحا لقرارك ، فإنك لم تختر هذا الاتجاه بل أبوك الذي جاء ممن ألمانيا ، اختار لك هذه المهنة ، وسلك بك هذا السبيل ، إنك لم تحب الحرب يوما ولا العنف ولا الحياة الصارمة الشاقة ، بل تأنس إلى الفن والذوق والجمال ، كم تمنيت أن تكون مهندسا معماريا ، مخرجا سينمائيا ، تقود اوركسترا أو تدير مصنعا ، ولطالما حاولت أن تكتب الشعر وترسم اللوحات ، وصفها لك الأصدقاء بالجودة ، كما وصفوك بالرقة والشاعرية ،وفسروا بها عزوفك عن العلم العسكري ، وعدم اكتراثك بالترفيعات والمناصب العسكرية .
لعلك منذ تخرجت عام 48 لم تدخل معركة إلا وكنت أشد حرصا على سلامتك من أي شيء ، حتى أنك لم تصب في أي معركة قط ،كانت أول معاركك مع الجيش الأردني ، كنت تقود جنودا تمرسوا في معارك الحرب العالمية الثانية ، واجهت صعوبات إدارية كبيرة ، كنت تعلم أنك فقير إلى الهيبة العسكرية ، والجرأة القيادية ، كنت تؤثر التراجع السليم على مغامرة الاقتحام ، لم تحظ يأي وسام أو تقدير بعد الحرب ، ولم توصف بالشجاعة والإقدام ، لم تأسف على هذا ، لأنك تعلم أن خروجك من المعارك بلا إصابة ، جائزة ووسام في حد ذاته.
أنت تعلم يا ديفد طوف أسباب نقلك إلى نابلس ، ولم يختاروك إلى جنوب لبنان، إن هذا لا يشعرك بالصغار ، فحياتك العسكرية شارفت على الانتهاء ، إنهم يلحظون فيك الجبن والعجز في حرب العصابات ومواجهة الفلسطينيين وضبط تحركاتهم ، وربما يكون تكوينك مناسبا لمواجهة المدنيين وقمع مظاهراتهم .
ها هي سيارتك العسكرية تتجه مكشوفة نحو المدينة ، يعبث الهواء بشعيرات رأسك الحاسر ، وهذا السكون الجميل يوحي باطمئنان يبدد الخوف ، فهكذا تقتضي مظاهر الشجاعة ، ومراسيم الاستعراض ، عليك أن توحي بالهيبة الاسرائيلية ، والسطوة العسكرية ، لعلها أجمل نزهة تقوم بها ، فهذا فصل الربيع ، تشتعل فيه الآرض بالألوان ، لا بد أن تختتم بهذه المهمة حياة عسكرية حافلة بالحروب ، ولا بد أن تتقاعد ، وتحدث تحولا في مسار حياتك ، تعيش السنوات القادمة من عمرك كما تشاء ، تفتش عن عمل هادئ بسيط ممتع ، لقد أزمعت فتح محل لبيع الأشرطة الغنائية والفيديو والآسطوانات ، إنه مجال مريح ، يوازي ما عشته من خوف وقلق ، صحيح أنك كنت في عداد الجرحى عام 56 ، إلا أن إصابتك كانت نتيجة تدهور لا إصابة مواجهة ، وصحيح أنك كنت عشية حرب حزيران في أمريكا ، إلا أنك رأيت الموت بأم عينيك عام 73 حيث كنت في سيناء ، قائدا لمستودعات الذخيرة ، هاجمت الطائرات المصرية مستودعاتك ، كنت خارج المكتب ، وهذا أنجاك من موت محقق، لكنك صعقت من الصوت ، وسقطت مغشيا عليك ، ودفنتك غيوم الغبار ، حتى أشرفت على الموت اختناقا، وحينما أفقت في المستشفى كنت تعاني من هستيريا الحرب .
هاهو مخيم بلاطة على يمينك ، لماذا تكون المخيمات على مداخل المدن ؟ الجلزون ، الأمعري ، الدهيشة ، عين السلطان ، العروب ، أتراها الصدفة أم التخطيط المسبق ، وهذا الوادي الممتد أمامك كالنفق ، أخضر كأنه قطعة من حلم أسطوري ، يظلله عيبال وجرزيم ، إنه لفأل حسن أن تكون آخر مهماتك العسكرية هنا ، مدينة عظيمة تجثم على انقاض شكيم ، كما تجتم القدس على انقاض اورشليم /لماذا لم تزل المدن العبرية مدفونة تحت القرى العربية ، لماذا لم تنبت بعد ، أين الخلل؟ أفي البذرة أم بالإستنبات ، لماذا أنتم عاجزون أمام ضعفهم ؟
عربتك العسكرية الجديدة تمخر الشارع الرئيس ، تجتازه ببطء استعراضي ، تطلق الزواميرالمنبهة إيذانا ، و الناس يسيرون ولا يلتفتون ، يتجاهلون الصوت أو يستكبرون ، لا يستجيبون أو لايثير انتباههم ، لا بد أنهم مسالمون ، فلايليق بك أن تستفزهم وتدفعهم للتطرف والثورة .
ها هي قيادتك على مبعدة بسيطة ، ستصلها بعد قليل ، إنها لحظة حاسمة ، تستحق التسجيل والتقاط الصور التذكارية ، عدستك تجوب الشارع العريض ، يجذبك أطفال يتجمهرون ، تراهم عبر الإطار المربع ، تفكر في تصويرهم ، حركتهم تثير فضولك ، تضبط البعد ، وفجأة ، تتحطم العدسة وتسقط من يدك ، يشج رأسك ، يكبح السائق السيارة ، تسقط حولك وقريب منك الحجارة ، يسرع إليك الجنود من السيارة الخلفية ، يمسحون دمك النازف ، ويضغطون على جرحك الغائر ، يطلقون الأعيرة النارية ، وأنت تعاتب القدر :
- ألا بد من إصابة...!؟
10/8/1983