فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة الثامنة
رجم العذارى
هاهي الجرافات في رجم العذارى ، تقلع الأشجار وتسوي الأرض ، يترآى الغبار من مسافات بعيدة ، ونحن نتدفق من كل صوب ، ننسل من البيوت والحارات ، نرنوا بلهفة وتحسر نسب ونلعن ونصرخ ، ندنو في تهيب وحذر ، نتشكل في حلقات ، نتكاثف في مجموعات ولا نجرؤ على الاقتراب ، لا ندري ما نفعله ، فهذه إسرائيل تقرر فجأة إقامة مستوطة هنا .
لماذا رجم العذارى ؟ إنها المنطقة التي تعيش في وجدان كل شخص منا ، إنه أكثر من حديقة عامة ، وإنه أكثر من مجتمع للناس بالمناسبات ، إنه ليس أفضل قطعة أرض في قريتنا فقط ، بل هو شيء آخر ، إنه رجم العذارى .
تهوي الأشار الباسقة ، تسمع طقطقة الجذور وتكسرها ، وضجيج اقتلاعها ، نحس وطء الجنازير ومخالب الشفرات ، والغبار الذي يحجب عنا بعض الألم ، وكالأشجار تتمزق الأفئدة وتتحطم الذكريات ، كل منا له فيه حصة ، كل منا له فيه شجرة ، زرعها أو زرعت له ،يسقيها، يقلمها ، يعتني بها ، يقطف ثمارها ، كتب على جذعها إسمه وتاريخ ميلاده ، إنه سجل مواليدنا ، فلا يولد طفل إلا وتزرع له شجرة ، تسمى باسه ، يترافقان في رحلة العمر فيزرع الزيتون والتخيل تيمنا ، حتى إذا مات كتبنا عليه تاريخ الوفاة ، يذهب وتبقى الشجرة نذهب ويبقى رجم العذارى .
يقول أحدنا وهو يرفس الأرض :
- يلعن أبو اليوم الذي قعدنا فيه نتفرج ونصف حكي
ويقول آخر
- ملعون أبوها ... هي التي أخذت المصاري ولم تفعل شيئا.
فيرد ثان
- يعني بدك محامية يهودية تحمي لك أرضك ، إذا العرب كلها مش عاملة شي ، بدك فليسيا لانغر توقف في وجه حكومتها
ها نحن الآن وجها لوجه أمام الجرافات والشمس المحرقة والعطش والمعاناة ,والأعصاب المتعبة تزداد توترا ، فهاهو رجل يدق رأسه بالصخر ، وآخر يغوص على شجرة يهشم أغصانها ، وفي آخر الجمع إثنان يتشاجران لأن أحدهما نفخ فأطفأ عود الثقاب الوحيد الذي كان سيشعل فيه سيجارته ، ويكور آخر حطته وعقالة ويركلها لاعبا بها كرة قدم .
رجم العذارى ، لم نكن نسميك بهذا الاسم ، كنا ندعوك يوما مرج العذارى ، كنت تستقبل الصبايا عصر كل يوم ، يمخرنك إلى نبع العذارى في السفح المقابل ، حاملات جرار الماء على رؤوسهن ، من إي عهد حملت هذا الإسم ؟ لا أحد يدري ،لا أحد يعرف متى ابتدأت هذه الرحلة اليومية ، إلا أننا نذكر قبل قرن من الزمن ، حينما جاءت عائلة تطلب ملكيته ، تدّعيه لنفسها ، فقد تركته يوما إثر الصراعات اليمنية القيسية ، وها هي تعود بعد عهد وقد ازدادت عددا وعدة ، اشتبكت مع العائلة الأخرى في موقعة عظيمة ، كانت الحجارة فيها تنقل على ظهور الحمير وفي القفف على رؤوس النساء ، تراشقت العائلتان من الضحى حتى العصر ، أبدع الرجال في فن اللوص والتصويب ، قتل سبعة وجرح خلق كثير ، سارع مخاتير القرى المجاورة ووجهاؤها ، وأوقفوا المعركة ، وأسعفوا الجرحى ودفنوا القتلى ، ودفعوا دياتهم ، وأجروا مراسيم الصلح ، وجعلوا فوق قبورهم كل الحجارة التي استعملوها ، صار رجما كبيرا ، اسمه رجم العذارى ، وصار رجم العذارى ملكا عاما .
ها هي الجرافات تكتسح الرجم ، تزيحه إلى الأطراف ، تبعثر حجارته ، يتردد أن اليهود لا يستولون على الأملاك الخاصة ، أترانا أخطأنا إذ جعلناه ملكا عاما...! ولكن ما الفرق بين الخاص والعام ؟ لماذا نطلب من كل شخص أن يدفع الشر عن نفسه ؟ ماذا يستطيع المخاتير والوجهاء أن يفعلوا غير مقاضاة الدولة بواسطة محامية قديرة ؟ ثم يرفعون القضية المليون إلى هيئة الأمم؟ وان تصبح القضية عنوانا بارزا في الصحف والإذاعات والتلفازات ؟
ها هي الجذور تعلوا في الهواء ، تزاح الأشجار كالجيف ، لعل أطفالنا أكثر فضولا ، وأكثر جرأة وحنانا ، يقتربون أكثر ، نخاف عليهم ، ويزدادون اقترابا ، تنطلق من أكفهم الحجارة الصغيرة متوالية كثيفة ، تصيب الجرافات ، ترتد عن فولاذها وشفراتها ، يصاب السائقان ، يتوقف العمل يسرع المسلحون نحو الجموع ، يطلقون الرصاص ، ينتشر الناس في البساتين ، يتشتتون ، يتعثرون ، يسقطون ، يصابون ، يموتون ، لكن الحجارة ظلت تتساقط على اليهود والجرافات بلا انقطاع .
13/ 8/1983