فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة العاشرة
وأعدّوا لهم
تنطلق السيارة نحو القدس ، عبر الأشجار والندى ،والصبح الذي يولد ببطء ، فوق التلال وبين الأودية ، والهدوء والصمت الذي يغشى الركاب ويسودهم ، يستشعرون النسيمات الرطبة الباردة المتدفقة عبر النوافذ المفتوحة نصفا ، ويتحول الصمت إلى خشوع مع القرآن الذي يتلى من المذياع ، لعلها قراءة شافع ، فسالم لم يأخذ كامل المحاضرات في مساق القرءآت ،إنه يتمنى لو يحصل على تسجيل لهذه القراءة ، لعله النموذج الحسن .
إنه يمضي باكرا ، فالإبكار يعطي نشاطا متميزا ، وتواجدا حيا وحضورا حقيقيا ، لا يدري لماذا ربما لأنه لا يحب النوم بعد صلاة الفجر ، فيظل يقظا ، ويركب أول سيارة تغادر القرية ، إنه كتلة مبدأ , هكذا يصفه أهل القرية ،ويسمونه الشيخ سالم ، لماذا اختار كلية الشريعة دون غيرها ؟ لماذا لم يدرس الطب أو الهندسةأو العلوم ؟ كما يقتضي مؤهله ، لماذا لم يصغ للأهل والأصدقاء ،؟ ولم يأخذ بنصائحهم ، لا أحد يعلم ، بل لا أحد يدري سر هذا الاتجاه الذي يشيع بين الشباب .
دورية تربض في منعطف حاد ، يتفاجأ السائق ويخشى المخالفة ،فزيادة الركاب مخالفة صريحة باهظةالعقوبة ، يتوقف لإشارة الجندي ، فيمد رأسه من فتحة الشباك ، يطلب الهويات ، تمتد بها الأيدي ، يدقق فيها ، يزداد السائق انكماشا ، لم يأبه للحمولة الزائدة ، يأذن لهم فينطلق السائق فرحا ، يقفل المذياع ، ويطلق لسانه في أحاديثه المعروفة ، يحتج الركاب على قطع التلاوة ، يعتذر السائق ويعيد إشعال المذياع .
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون عدو الله وعدوكم ...) تسقط على القلب بلسما كالشذى ، كالندى ، يرددها الركاب في تلذذ، يقرأونهامع المقرئ ، كأنهم يستطيبونها ، لقد أصبحت هذه الآية شعارا من الشعارات التي تُرفع في طول العالم العربي وعرضه ،ماذا يعني الأعداد ؟ ما حكم الأمر في ( وأعدوا) ؟ أتراه تكليف للفرد أم للجماعة .
لم تبزغ القدس ولا أطلت مآذنها ، ولا بد من دوريات أخرى على الطريق ، فالمظاهرات مشتعلة والإضرابات متواصلة ، والمواجهات دامية ، في القرى والمدن والمخيمات ، كل يوم فيه شهيد أو أسير أ,جريح ، أترعت السجون بلا جدوى ، فلكل جيل معركته ، وتجربته ، لا يغني جيل عن جيل آخر ،يقدم ضريبته ، ويدفع ما عليه لله والحق والوطن ، لا نهاية لهذا الكفاح الذي ينبت كالعشب البري ، وينمو مع الرعي والتقليم ، الأمور تزداد تفاقما ، وتصبح مادة دسمة للإعلام .
تنتهي التلاوة ، يعدل سالم جلسته ، ينضد كتبه على فخذيه ، يصغي إلى التفسير (...ويأمرنا الله في هذه الآية الكريمة أن نعد للأعداءما نستطيعه من قوة، والمقصود هنا بالقوة ، ووسائل القوة كثيرة كثيرة تختلف من عصر إلى عصر ، فحينما كانت تتمثل قديما بالسيوف والرماح والنبال والتروس ، فإنها تتمثل اليوم بالدبابات والطائرات والصواريخ ، ومختلف الأسلحة الأخرى ...)
تفسير تقليدي لا جديد فيه ، فلماذا قال الله تعالى ةمن رباط الخيل أي عطف رباط الخبل على القوة ، لاشك يرمي إلى فصل الإعداد عن المرابطة ، ولكنه يجعلهما متلازمتين ، أي إعداد متواصل ومرابطة متواصلة ،لماذا تكون التفاسير المأثورة هي التفاسير الأفضل ، لماذا هذا المعسكر الكبير المتواجد هنا منذ أن كان الاحتلال ، إنه ليس معسكر تدريب أو صيانة أو خدمات ، نمر عليه يوميا نرى فيه الدبابات والمدافع والناقلات والصواريخ ، أسلحة لم تبرح مكانها حتى في حروب إسرائيل الكبرى ،ربما أنها غير صالحة ، ربما أنها للعرض فقط ، كي ينظرها العرب ويتذكرون وضعهم الأعزل الضعيف ، ويؤمنون بتفوق عدوهم واقتداره .
(...وأعدّوا لهم ما استطعتم ...) لماذا لم يقل وأعدوا لهم أكثر مما أعدوا لكم وأحدث ؟ ماذا تعني الاستطاعة ؟ إنها نطاق القدرة ومجال الجهد ، أن تستحضر الإمكانات التي في حوزتك ، والتي تقدر عليها ، وفي متناول يدك ، تعني ألا تنتظر القوة التي تريدها ، أو تتمناها ، وتتفوق فيها على عدوك ، إذن فالمقياس هو القدرة والاستطاعة ، وليس الكمية والنوعية ، إنها فقكرة تستحق المناقشة مع أستاذ التفسير ، ولكن لماذا المناقشة وأخذ الرأي ؟ إنه تفسير يتفق مع الروح الإسلامية والوقائع التاريخية , فما كان يوما من توازن بين المسلمين وأعدائهم ، كانوا الفئة القليلة التي تنتصر على الفئة الكبيرة ، كانوا الأقل عتادا والأكثر نصرا .
تؤرقه الفكرة ، وتدور في صدره ، يتداولها الطلبة باهتمام ، بين المحاضرات وفي الردهات وفي الملعب .
يقول الشيخ سالم في جمع من الطلاب :
- لقد أمرنا الله أن نقاتل بما نستطيع ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وعلينا أن نعترف بما نستطيعه وبما لا نستطيعه ، فإننا سنرهب به عدو الله وعدونا ، وإن ينصركم الله فلا غالب لكم )
- تشتعل الفكرة في النفوس ، تناقش بكل الجدة والعمق اللازم ، تخرج جموع الطلبة من الكلية ، تحمل الحجارة ،تتجه صوب المركز العسكري ، يقذفونها ويهتفون:
- اللهم هذه استطاعتنا ...اللهم هذا ما نستطيع .
20/8/1983