فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة الحادية عشرة
أمنيه تتحقق
ماذا تتمنى ...؟عبارة كتبها الأستاذ على اللوح ،جعلها عنوانا لمضوع الانشاء، ماذا تتمنى ...! لعل العمر أضيق ممن الأمنيات ،لعله أصعب سؤال يواجهه الإنسان ، فالخيارات محيرة ،والأفكار تائهة والأقلام متوقفة ، إلا جلال شاكر ، إنه مبتهج ،يستحضر عناصر الموضوع ،يرتبها كي تؤدي للفكرة ، ينطلق في الكتابة ، يسرع فيها كأنه يستمليها من أحد ، يتعجب الاستاذ من هذه السرعة ، وهذه الدقة والترتيب ، يعجب من هذه اللغة الحماسية والرؤية الواضحة .
ماذا تتمنى يا جلال؟ لقد تمنيت يوما أن تكون شهيدا ، ولا زلت مصرا على هذه الأمنية ، أمنية غريبة ليست على نسق ما يتمنى الناس ، أمنية ليست في متناول يدك ولا في مرمى قدرتك ، لكنه شعور يتلبسك ، فتتصور أنك شهيد ، بل تتأكد لك هذه النهاية وتوقن بها ،وتراها على مبعدة بسيطة ، مما يدفعك إلى كتابة وصيتك على ورق مقوى حينا وحينا على دفتر الإنشاء ،لكنك تفشل في إيصالها إلى من يتعهدها ، فأمك ترفض هذا الفأل السيء وأبوك يقول ( وما أدراك أني سأعطيك وصيتي...؟)
الهاجس يزداد عليك إلحاحا ، يشعرك بتفاهة أيامك ، لكنك لا تبدو فزعا ولا مستسلما قدريا ، بل تعلم أن الشجعان هم وحدهم الذين يقاومون الظلم والأخطار ، ويرفضون الذل والامتهان ، أي حياة هذه التي تمتد بين أوامر الاعتقال ومنع التجول .
لماذا يعيش الإنسان ؟ سؤال يلح على نفسك كثيرا ،تناقشه ألف مرة في اليوم ، ما هي رسالتك في هذه الحياة ، ماذا يعني أن تكون طبيبا بلا حرية ، مهندسا بلا وطن ، عالما بلا شعب ، يضيق أستاذ اللغة العربية من سودايتك ،يؤكد لك أن الحياة مرهونة بإرادة الله ، إنه وحده الذي يقررالحياة والموت ، ويقدر الأقدار ، يؤكد لك أن استفساراتك لا يحتملها سنك ، ولا يطيقها عقلك وتفكيرك ، وإن استطاع أن يحد من اندفاع تفكيرك وتساؤلاتك وهواجسك ، إلا أن زملاءك ظلوا يتكلمون مثل ما تتكلم ، كأنك أصبحت منظرا لهم يتدارسون مشكلتك في مجلس الآباء والمعلمين ، رغم أنهم لايفهمون سر هذا الاتجاه ، إلا أنهملا يرونها دعوة للإنتحار .
إنه الهاجس الذي لاتحاول الفرار منه ، يجعلك أمام قدر واقع ، ولا بد هنا من أن تجعل لاستشهادك معنى ، فعليك أن لا تموت أعزل اليدين ، فالموت على هذه الهيئة لا فائدة منه ، ولا مردود ، ولا يشرف النفس ولا يؤدي إلى تحول ، فأفضل ما تكون شهيدا ،وأنت تحمل السلاح .
هكذا تبتديء عندك مرحلة التبلور ،فأي سلاح يمكن أن يكون معك ؟ بل أي سلاح يمكنك الحصول عليه؟ربما تستطيع أن تشتري قطعة سلاح ،أو تقوم بتهريبها ،ولكن الاصعب أن تجرِّد في ظل ظروف معينة جنديا من سلاحه ،أما الأكثر صعوبة فهو التزود بالعتاد والذخيرة .
إنها أحلام تقتل الفعل وتقود الى اليأس ،فالأفضل منها أن تذهب إلى إحدى الدول العربية ،تنخرط جندياً في جيشها ،أو مقاتلاً حراً مع الثوار ،تملك السلاح الذي تريده أويتاح لك ،رشاشاً ،مدفعاً ،دبابة ،صاروخاً ،طائرة ،لا فرق ،فرفقة السلاح رفقة عظيمة ،وأعظم منها أن تترافقا إلى الأبد ، أن تموت جانب السلاح الذي تحمله .
ما أروع الإنسان الذي يدفن مع سلاحه ،فكرة لا تدري كيف هبطت عليك ،فالأبطال دائماً ينبتون من قبور الشهداء ،أما المدفونون مع سلاحهم فإنهم يطرحون أبطالاً مدججين وثورات مسلحة .
تنقضي المظاهرات ولا يعود جلال ،ولا يكون مع المعتقلين ولا بين الجرحى ، فيفتشون عنه ولا يجدونه ،ويمضون الأيام بالبحث المتواصل والأسئلة اللاهثة المضنية ،إلى أن تصيح امرأة صعدت تنشر الغسيل :
- يا ناس ... يا جماعة ... تعالوا شوفوا .
يهرعون الى الصوت ،يجدون جلالاً على سطح البيت ، متكوراً على نفسه ،يقبض على حجر باصابع متيبسة ،ودماء سوداء متخثرة سالت من ثقب في صدره ،يحملونه ، ويكشفون عن مكان اصابته فيجدون ثقباً فوق القلب وعبارة بالوشم فوق الصدر العاري من الشعر تقول (ادفنوني مع سلاحي ).
يسدلون القميص عليه ، ويحاولون شد قامته المتيبسة،ويحملونه مساء إلى القبر بثياب استشهاده وكفنه ،و لم تزل يده قابضة على حجر صغير في حجم حبة التين
23/8/1983