فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة الثانية عشرة
العصر الحجري الجديد
عبر النوافذ الخفيضة ينظرون، عين على اللوح وعين على الساحة، بتشتت الذهن بين المحاضر وبين الجنود الذين يتمركزون عند المدخل ، فتمتد الأبصار عبر الطرقات المؤدية إلى الجامعة ، والقلب موزع الاستجابة للإستفزاز والإذعان له ،وبيرزيت جامعة تأكلها الإغلاقات ، أحد لا يدري إن كان هذا هدف أم وسيلة ، كيف ينمو المواطن ؟ من أين تأتيه الروح والفكر والتوجه ؟ يتبدد الجهد بين العقل والعواطف ، يتبددالجهد بين الشعارت والممارسات ، وهذا الإجهاض المتواصل للعناقيد والحراثة العميقة المستمرة لقلع الجذور .
هنا تقف بير زيت ...
ووهنا يقف المحاضر متوترا بلا مزاج ، ليس كسابق عهده ، فاقد الحماس ، بارد الانفعال ، يكتب على اللوح ( تاريخ فلسطين في العصر الحجري )يدرك أنه موضوع أكاديمي بحت ، لا يشد الطلاب ولا يثير فيهم الحماس والانتباه ،يقول طالب باحتجاج: )إنه موضوع ميت )، لا يدري ما يجيب به إلا أن يقول الجزء الميت في كل الحيّ حيّ ) يضحك الطلاب لهذه الفذلكة ،لكنه أفضل من أن يزدري تدخلهم بالمنهاج ،يعرف ظمأهم وما يريدون ، مبادئ مصفاة جاهزة معلبة ، معدة للطهو والابتلاع ، لكن المساق هو المساق والطلاب هم الطلاب .
( ...تعتبر فلسطين مهدا للإنسان العاقل المتحضر ، هناك في مغارة الزطية شمالي مدينة طبريا آثار تشهد على ذلك ، جمجمة بشرية تعود إلى 200ألف سنة قبل الميلاد ، في ذلك الومن حيث انتهى عصر ما قبل التاريخ وابتدأ العصر الحجري الأول ،في ذلك الزمن ابتدأ الإنسان باستعمال الحجارة كأدوات مساعدة لأظافره وأسنانه وأصابعه ،هناك في كهوف الكرمل وجدت أدوات ذلك العصر ،مقاشط ومحافر وشفرات وسكاكين وفؤوس يدوية ، وغيرها من أدوات صوانية أخرى ، وهناك أيضا في مغارة الطابون كان أعظم اكتشاف أثري ، قطعٌ من الفحم يعود تاريخها إلى 15 ألف سنة قبل الميلاد .)
ما علاقة العصر الحجري بالعصر الفلسطيني ؟أتراه استكمالا للتصور التاريخي والرؤية المتكاملة ؟ لا... فهذا عصر الاستفزاز ، عصر الجنود الذين يفتشون منذ ثلاثين سنة في الهويات والجيوب والأشياء الصغيرة ، في الكتب والدفاتر والأفكار لعله الأستاذ المحاضر الذي لم يربط بين موضوع المحاضرة والاتجاه النفسي للطلاب ، لكن ماذا يفعل ؟ لا بد أن يتابع المحاضرة .
(...أما في العصر الحجري الوسيط ،ذلك العصر الذي ابتدأ من اثني عشر الف سنة قبل الميلاد ،حيث ابتداء عصر الزراعة في فلسطين ،زرعوا القمح والشعير والدخن ، زرعوا التين والعنب والزيتون ، وكانت أدوات حجرية تخدم هذا التحول ، فصنعت المناجل الصوانية ،وعبدوا القمر لانهم وهموا علاقة بين نمو النباتات والقمر ، هنا بنوا المعابد فنبت الفن في افيائها ، ففي كهوف الكرمل رسم لثور كما في معابد اريحا رسوم تماثيل لنذور من بقر وغنم وماعز...)
يعلو الصياح ، ويدلف من النوافذ الخفيضة المفتوحة ، صياح تختلط فيه اللغة العربية بالعبرية بالانكليزية ، تشتد المناقشة وتحتدم ، يتجمهر الطلاب ويتوافد الجنود وتتسع رقعة الصياح وضوضاء الجدل ، يلوح التوتر والاستفزاز ، فهذا عصر الاستفزاز ، استفزاز يمتد الى قرن من الزمان ، زمن لم يعشه شعب في العالم لماذا ندرس تاريخاً ونعيش تاريخاً آخر؟ اتراه التاريخ لا يعيد نفسه ؟ من ذلك الذي قال ان التاريخ يعيد نفسه ؟ كأنما قصة ممله يرويها ابله ، لماذا نعيش اليوم تاريخاً متفرداًلا سابق له ولا مثيل ؟
يدق الاستاذ المحاضر الطاولة ، يستجيبون حياءً، يحاول أن يتجاهل ما في الخارج ، لعله يوحي بأهمية المحاضرة .
(...ويأتي العصر الحجري الحديث الذي يبتديء من ستة الاف سنة قبل الميلاد ، اذ ابتدأ الإنسان يصقل أدواته الحجرية ويرهفها ، ويصنع لها المقابض وترك الكهوف وبنى البيوت الحجرية ،فكانت المدن والقرى ، وكانت أريحا أول مدينة في العالم أول مدينة عربية اسمها يريحو ، لغة عربية قديمة تعني القمر ،مدينة بنيت قبل سبعة آلاف سنة ، كان لها سور يرتفع إلى عشرة أمتار ، به برج مستدير حوله خندق محفور في الصخر ، عمقه متران واتساعه ثمانية ، وكان الحد الفاصل بين مجتمع الغاب ومجتمع الإنسان ، فصل بين الإنسان والحيوان ، في هذه المدينة صنعوا الخزف واخترعوا الغزل والنسيج ...)
من أرخ لتلك العصور من الزمن ، ومن يؤرخ لهذا الزمن وهذه الأحداث ، أتراهم الصحفيون ، لماذا يعتمد المؤرخون على معلومات الصحفيين ، لماذا ينتظر المؤرخون ردحاً كي يبدوا رأيهم ،ألكي تصفو قرائحم أم لير تبوه حسب هواهم ومنطقهم ونطاق رؤيتهم ونظرياتهم ، ها هو العنف يزداد اشتعالاً، تطلق النار ويتفرق الطلاب ويذوبون في المداخل والزوايا وبين الاشجار ، يتراشقون بالحجارة مع الجنود المدججين ،يكاد حجر ان يخترق النافذة ، يرتبك الاستاذ ،ولا يعرف ماذا يفعل ،ينسل طالب من مقعده ويمضي بلا استئذان ،يتبعه آخر ، يصيح الاستاذ
-إلى اين ...
_نشهد العصر الجديد
27/8/1983
