فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة الخامسة عشر
وامعتصماه
سيارات عسكرية ثلاث ، تستقر هادرة في الساحة ، يبصرها المختار ، إنها سيارات حرس الحدود , ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لونها قابض شرس ، يقشعر له البدن ، ويفيض القلب خيفة وتوجسا ، فأي الشباب سوف يعتقلون ، يهرول الدرجات متكئا على الافريز الخشبي ، إنهم هم الذين يأتون للإعتقال دوما ، فيهم توكل دوما مهمات الاعتقال ، هكذا يبدو ، يقترب منهم ويقتربون منه ، يعرفهم ويعرفونه ، يخاطبونه ويردون عليه برود ، يستل الأوراق المعهودة من جيبه ، يعرفها من شكلها ولونها ، وما تحويه من أسماء سيعتقلونهم ، فمن يكونون ...؟ إنه يخمن ، إنه يعرف ولا يعرف .
إنها نجمة عبدالسلام .....!
إذاً فهي فتاة هذه المرة ، إنها أول فتاة تعتقل ، نجمة..., هذه الفتاة التي تعمل مدرّسة في مدرسة البنات ,ونعطي بعض الحصص في مدرسة الذكور تطوعا ، تلك الحصص التي شغرت باعتقال أحد المدرسين . نجمة تلك الفتاة البسيطة الاجتماعية الذكية , المخطوبة إلى معتصم جابر ، الممرض الذي يدير المستوصف في غياب الطبيب .
خبر مذهل ، يسقط على المختار كالقدر ، يصبح إزاءه واجما لا يريم ، إنه حرج الموقف ، لماذا يريدونه شاهدا على الاعتقال !
وكأنه مشارك في اعتقالهم ، أو يقدمهم بيديه ، ما هذا العناء الذي لا ينتهي ! والعذاب الذي يزداد . أما اعتقال فتاة ،فإنها إضافة نوعية جديدة ، ليست أول فتاة تعتقل ، لكنها أول فتاة من القرية ، لذلك فالشعور أليم مختلف متميز ، إنهم يتأسون بشجاعة الشباب وقدرتهم على الاحتمال ، ورغم ذلك فإنهم يتفطرون ألما حينما يُزَجْون بالسيارة ،ولكنها اليوم نجمة ، لا أحد يعرف كيف تكون المشاعر ، ولا كيف تضبط التصرفات والانفعالات .
- لماذا ...؟
يسأل المختا وكأن هناك أسباب وجيهة ، لعله يباطئ ، يقاوم التنفيذ ، يتلكأ ، يعبر عن رفض لاشعوري .
_ مخربون ... كلكم مخربون
يرد الضابط بصلف ، يتلذذ بهذا الهلع الواضح على وجه المختار ، وهذا الاستطلاع المتوجس الذي يبدو على الوجوه التي تجمعت من كل صوب ، كيف توافدت هذه الجموع بهذه السرعة ؟
_ في المدرسة
يجيب المختار ، يسير منوما ، يسيرون معه ، فالمدرسة على الضفاف الأخرى من الساحة ،يدخلون المدرسة ، يزداد التوتر في الجمع ، ينفجر القلق وتنطلق التخمينات ، يتوافد الطلاب من مدرسة الذكور ، إنهم خلق كثير ، لعل أحدا لم يشهد هذا العدد ، شيوخ وأطفال وشباب ونساء ورجال ، توقف بعضهم باغنامه وبقراته وحميره ،حتى القطط والكلاب تجمعت في مكان غير بعيد .
يخرج المختار والمدير ونجمة وخلفهم الجنود ، تمتقع الوجوه وتستدير الأحداق وتَجمدُ في محاجرها ، أكثرهم لم يفطن إلى ريقه الذي نشف ، ومن فطن بلعه وضرب كفا بكف ، وقال لا حول ولا قوة إلا بالله .
اخترق الموقف الصفوف ، حركة استعراضية أبهجت الضابط وأمتعته ، وفجأة تنطلق الصرخة :
-وامعتصماه ...!
تطلقها نجمة في سورة من الياس والحماس، يرتفع الضغط ويزداد التوتر الشرياني ، ولم تعد الجفون قادرة على حبس الدمع المتحفز أن يفيض ، ( وامعتصماه ) صرخة تاريخية تراثية أطلقتها امرأة أنطاكية وسمعها الخليفة في بغداد ،صرخة تطلقها الفتاة تقليدا وحماسا، تربط الماضي بالحاضر ربطا رومنسيا ، للمقارنة ليس إلا ، لكن القوم يزدادون وجوما ، ويزدادون إحباطا وانهيارا .
يقترب الموكب من السيارة ، يتباطأ الضابط كأنه يمشي في عرس ، يصل معتصم جابر ، يندفع كالسهم يخترق الجمع ، يبرز في ثيابه البيضاء كالشبح ، يواجه نجمة ، تقف في حلقه الكلمات ، تبادره القول :
_ معتصم ...! لا تخف يا معتصم
_ أنا فداك يا نجمة ...
تفيض النفوس أسى ، ويزداد الدم الصاعد للرؤوس، وتصبح الدنيا في حجم امرأة ، فتنزف النفوس آهاتها ، وتنفث آلامها ، والمعتصم يصرخ كالمجنون :
_ خذوني أنا.... خذوني أنا
يُدفع إلى مسافات بعيدة ، تندفع إليه نجمة ، يمسكون بها ، وتُسحب نحو السيارة ، فتناديه مرة أخرى :
_ وا معتصماه ...
ويعرف الناس أي المعتصمين تنادي ، إنها لا تطلق شعارات ولا تستثير عواطفا ، بل تعرف أين تبث صرختها ، لقد سمعها على بعد ليس بقليل من هنا ، فالقلبان متواصلان ، يتهاتفان بإسلوب لا يعقله إلا المحبون .
وتناديه مرة أخرى :
_ وا معتصماه ...
إنه الخليفة حيث مات الخلفاء ، إنه الشجاع حيث مات الشجعان ، يلبي النداء حيث يتشاغل الآخرون ، وماذا في يدك يا معتصم ، قبضة من تراب ، اقذفهم بها ، ولا تأس َ ، فلتذروها الرياح ، فلتنتثر ، هاهي ترتد عليهم حجارة بعدد ذرات التراب ، تهطل شواظا على السيارات والجنود ، من كل الأكف الصغيرة والكبيرة ، من كل الجهات تتساقط ، أنظر ، في جميع الجهات يطلق الرصاص ، ومن جميع الجهات تقذف الحجارة .
3/9/1983