فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة السادسة عشر
المئذنة
منذ الصباح ونحن نجلس حسب ماارتآه قائد الدورية ، بعضنا يجلس القرفصاء وبعضنا يمد رجليه ، نتقلّبُ بين جلسة القرفصاء والتربيعة والركبة والقعود ، ألف من الرجال وألف من النساء يجلسون في العراء ، ومثل عددهما طفال يدسون رؤوسهم في أحضان آبائهم وأمهاتهم .
منذ الصباح ونحن نجلس هكذا محتجزين إلى اشعار آخر ، لقد سدوا علينا منافذ القرية جميعها ، لم يبرحها أحد إلى مزرعته أو وظيفته أو مدرسته ، حتى المرضى لم يسمح لهم بالمغادرة للعلاج ، نجلس في الساحة الممتدة بين الجامع الجديد ومدرسة الذكور ، نفترش الأرض وتلفحنا الشمس بأشعة صيفية،تزداد التهابا كلما تعالت في السماء ، ساحة لا ظل فيها لحائط أو شجرة ، ها هم قد سمحوا لنا بعد ثلاث ساعات أن ننزل أيدينا عن رؤوسنا ، وأن نجلس كما نشاء ، إنهم أكثر رحمة مما كنا نتوقع .
أغرب ما في الأمر أن أكثرنا لا يتذمر من هذا العقاب ، ويرى الأمر عاديا ، ومتوقعا وغير مفاجئ ، بل مستهجن أن لايكونوا غير ذالك ، فإسرائيل تحرص جدا على أمنها ، فالأضرار التي لحقت بالسيارة العسكرية عظيمة جدا ، لقد كسر الأولاد زجاج السيارة ،وجرحوا سائقها ، وها هو جرحه واضح أسفل ذقنه كأنه أثر من حلاقة مستعجلة .
تصبح الشمس عامودية , وتتقلص الظلال ، وينحسر الجنود ،إلى حائط المسجد ، يستظلون بظل المئذنة ، يشربون الأشربة المثلجة على مرآى من الأطفال لعطشى ، لا بد أن جريمة مثل هذه تستحق مثل هذا العقاب ، إن فلسفة العقاب شيء لا نفهمه ولا يفهمه أحد ، إنها تخص شعب الله المختار ، هو يفهمها ، وينفذها بحرص وتقنية عصرية ، أربعةآلاف شخص يؤخذون بجريرة أربعة أطفال ضربوا سيارة عسكرية أربعة أحجار ، شيء فظيع ،ولا بد لنا نحن أهلهم وأقاربهم ومجتمعهم الذين نرضى عن فعلتهم ونشاركهم العداء من أن نشاركهم العقاب ، ولا بد للأيدي الصغيرة التي تحمل الكتل الحجرية من أن تقطع قبل أن تحمل الكتل الحديدية .
فأل سيء أن تدشن هذه المئذنة بهذه المناسبة ، أمس فقط فككنا الخشب عنها، واختلفنا في متانتها ومطابفتها للمقاييس ، فالمتعهد يصر على أنه نفذ المخطط تماما، لكن المجلس البلدي يتهمه بسوء التنفيذ ، وأما المهندس المحكّم ، فإنه لم يستطع الكشف عن كميات الحديد، لأن النبش في الأساسات له خطورته أيضا ، فيصيح عضو المجلس البلدي ؛ ليس الحديد فقط ، بل نسبة الاسمنت المتدنية والدبش الكثير ، فيقول آخر : لماذا لم توقفه ؟ فيرد بعنف : أنا لست مخولا، كان على ضميره أن يراقبه ، فيقول بعض الوسطاء : إنه بناها ضمن الأموال المرصودة ، فلا يعقل أن يدفع من جيبه .
هم يعرفون الأطفال ونحن نعرفهم ، يجلسون بيننا ولا نشي بهم ، وهم لا يلحون في طلبهم ومعرفتهم ، فالعقاب الجماعي هو الهدف عندهم ، ها هم يسرّون اليوم عما لاقوه من احتقار الشعوب لهم ، ولكننا نفهم أيضا أنهم يرمون إلى تفتيت المجتمع وإلى خلق التباغض بين الناس .
الشمس عامودية على الرؤوس ، تزداد الحرارة ويزداد التململ والسخط ، والاحتمال الذي بلغ حده الأقصى ، يحاول أحدنا الوقوف فقد كلّت رجلاه من القرفصاء، فيبادره الجندي بهراوة على رأسه ، فيسقط بلا حراك .
يحدث هرج كثير ، وتزداد الأمور سوءً ،فإذا كانت هذه الهراوة عقاب الوقوف ، فماذا يحدث ضد الاحتجاج والصراخ ؟ يفكر أحدنا بالحجارة ، فلا مهرب منها إلا إليها ، لا بأس أن تحدث بعض الإصابات ليتسنى لبعضنا القصي النجاة ، أن تفلت في غمرة الفوضى أعداد يسيرة ، أن تخبر أحدا ، جهة ما ، فماذا نستفيد إن تباكت علينا بعد أسبوع الإذاعات والصحف وجمعيات الصداقة والرفق بالحيوانات .
ها هم مجموعة من الشباب يتفقون على إحداث شغب أو صوت وضوضاء ،جس نبض ، أو شيء كهذا ،إنه خروج عن سكون الاعتقال ، يقفون ، فتخترقهم زخات الرصاص ، مات واحدٌ فورا وأصيب الثلاثة الآخرون ، ولم يسمح بنقل القتيل أو إنقاذ الجرحى ، إنه هدفهم ، يودون لو يقتل كلها ، لا أحد يوقف القتلة في مرحلة الاحتراف ، دولة من القتلة ، مجتمع من القتلة ،وشعب وصل حائط اليأس .
ليس الموت فجيعة ، بل الفجبعة أن تحرص على الحياة ، أن تهرب ، ها نحن نجتمع حول القتيل ، نسمع الطلقات وهي تئز ، لا تخلق الخوف فينا ، بل نراها كشيء لا يعنينا ، رصاص مقابل حجارة ، عقاب جماعي مقابل زجاج سيارة ، وقوف عقابه القتل ، ماذا يفعل الانسان حينما يجد نفسه أمام الموت ، هل حقا يرتد اليائس شجاعا ، لا غير السخط والشتائم والابتهالات والدعوات من الله والتضرع إليه ، شيء فوق قدرة الإنسان وتحمله ، ها هي الشمس تدنو من سمت السماء ، لم تبرح مكانها منذ زمن ،أتراك واقفة تنظرين الجرائم كما وقفت يوما تنظرين جرائم يوشع بن نون ، أيتها الشمس ؛ لا تحترقين غيظا وأسفا ، فأنت تحترقين فوق رؤوس عارية مكشوفة ، والمجرمون في الظل يستفيئون ، يتجمعون حول المئذنة ، يتراصون في حيز الظل،يرتبون السيارات لتزداد المساحات لمظللة ، فالشمس لم تزل تحترق ، والمعاناة تزداد وطأة، وتبدأ الأفكار بالتراجع ،ويدب الوهن في النفوس ، فماذا تفعل الحجارة في عصر الأقمار الصناعية ،والقنابل الذرية والعنقودية ، لقد كان الأجدى أن تبوس اليد التي لا تقدر عليها .
اهتزاز في الأرض ، وطرطقة في المئذنة ، يسقط حجر ...، حجران ، تتشقق ويسقط الرف ، ويذعر الجنود ، يتحركون كدجاجة محاصرة ، تتفسخ المئذنة ، تسقط شلالا من تراب وحجارة , صوت رهيب وهزة أرضية ، غبار وحطام وضوضاء ، شيء يجل عن الفهم والاستيعاب ، نفر كأننا ننفلت ، نتراكض في اتجاهات متعاكسة متضاربة ، نتصادم وينقشع غيم الغبار وتتضح الأمور ، تظهر السيارات المحطمة والجثث العسكرية التي تنزف دما يتسرب بين التراب والحجارة .
يهلل بعضنا ويكبِّر ، يراه انتقاما إلهيا ، لكن آخرين يرونها صدفة لها مبرراتها ، ونختلف في تفسيرها ، يقول أحدنا إنها من جنود الله التي تقاتل مع المؤمنين ، بينما يقول آخر : إنها الحجارة التي تقاتل حملناها أم لم نستطع حملها .
8/9/1983