فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة السابعة عشر
المعطف
من انتقى لك هذا الاسم يا دان جلجال ؟ لقد كان لك اسم أمريكي ووجه أمريكي وتاريخ أمريكي ، جئت لتخلع اسمك ووجهك وتاريخك ، وتدخل عالم الأساطير التوراتية والإيحاء التلمودي .
اصعد السيارة العسكرية ، حاول ألا تتثاقل ، فما زلت أعزبا ، رغم تجاوزك الخمسين ، قواك تخونك وجسمك لا يستجيب لرغباتك ، رؤساؤك يلاحظون فيك هذا ، فينتقون لك المهمات المناسبة ، يراعون فيك الحنين إلى قمع المظاهرات ، خبرة اكتسبتها في شرطة الولايات المتحدة ، أنت هنا الآن يا دان جلجال ، بلا مركز، بلا رتبة ، بلا موقع ، لو كنت في مكان آخر , لكان لك موقع أفضل ، يردون إهمالهم لك لضعفك باللغة العبرية ، وانطوائيتك التي تستبد بك يوما بعد يوم ، لماذا تنزلق نحو الانطوائية هذه ؟لقد كنت مرحا ، ومن فرط حبك للحياة لم تكن مبالٍ بها ، كان زملاؤك يلقبونك بالقذر ،وكنت تحب هذا الاسم ، كنت قذر الثياب ، قذر السلوك ، قذر الأخلاق ، كنت مثال الشباب الآمريكي ، كنت معجبا بنفسك ، وكان معجبا بك الآخرون ، كان زملاؤك يطلقون النار على الزنوج ارهابا، وكنت تطلق النار عيانا ، كنت تنتشي وأنت ترى دماءهم الحمراء تلطخ بشرتهم السوداء ، وتقول : سأغير بشرتكم أيها السود .
أمسك بحواف السيارة ، فهي تنطلق بسرعة كبيرة ، تخترق الشوارع والاحياء والمخيمات ، فعليكم أن تسبقوا المظاهرة التي تتجمع حول المنارة ، عليكم أن تسدوا المنافذ إلى الجهات المختلفة ، امسك جيدا،فالحفر كثيرة في الطريق ، إنكم تجتازون الأمعري إلى البيرة ، دنوتم الآن من قلب الأحداث ، لما ذا ينتقونك دائما لهذه المهمات ، أتراهم يراعون فيك ميلَك أم يراعون سنَّك أم خبرتك ؟ إنك تغتبط لهذه المهمات التي تعيد لك ذكربات جميلة عذبة ، ذكريات الصبا الذي انقضى ، وأيام المواجهة مع السود ومارتن لوثر كنغ ، أيام التلذذ بقتلهم وابتزازهم ، أيام الحرية المطلقة التي لا يطولك معها قانون ، ولايعيب على تصرفاتك أحد
ها هي السيارة تخترق البيرة ، تخترقها من الشرق لتسد على المتظاهرين أمام سينما الوليد الطريق إلى مركز الشرطة ، إنهم لا يقلون عن المتظاهرين السود عنادا وشراسة ، لكن الأسود شيء مرعب بقدر ما هو ممتع ، كانت رصاصاتك لا تخطئ أبدا ، ولا تعرف كم من السود قنصت ، وودت يوما أن يبقى النهار ولا يزول ، وأن تبقى المظاهرات ولا ينقضي القتل ، لم تكتم فرحك بالقتل ، لاحظوا فيك هذا الجنون، وددت في البيت أن تطلق النار على أي شيء ، غفوت فهجموا عليك من كل صوب ، تكاثفوا عليك حتى أصبحوا ليلا مخيفا ،ترتجف ، تصيح ،تفيق قبيل الصبح ، تصحو قلقا غير منسجم الأعصاب ، تمضي إلى عملك باكرا ، فإذا بك منقول إلى مصلحة السجون ، ضمن طاقم الاعدام ،لم تغتبط كثيرا لهذه الوظيفة ، لأن القتل لا يكون يوميا ، ولا بالمقدار الذي يروي الغليل
ها هم المتظاهرون...، تبدو الجموع كثيفة دسمة ، تتفجر حيوية ، يسري في نفسك الحبور والغبطة ، تنقل بصرك بين الجموع وبين بندقيتك الجديدة ، المحشوة بالرصاص ، وذاك الفتى الذي يلبس معطفا في عز الصيف ، يتميز عن غيره باندفاعه الشديد ،إنه هدف سهل لبندقية جديدة ، فمنذ متى لم تقتل بشرا يا دان جلجال ، ولم تصوّب بندقيتك بغلِّ ، لعله ذاك العملاق الأسود المخيف كان آخرهم ، وقف أمامكم موثوق اليدين ، قاسي الملامح ، كثير الشحم واللحم ، وحين وقفتم _ طاقم الإعدام _ قباله ، وددت من قلبك أن تكون الرصاصة الحية من نصيبك ، يقف أمامكم بناءً بشريا عظيما ،تطلقون النار ، يصرخ صرخةعظيمة ،ويتهاوى كالفيل ، تسدلون بنادقكم ، وترونه ينهض معصوب العينين موثوق اليدين ، متثاقلا مزمجرا ينزف دما ، كان أكثر إرعابا وإخافة ، أخافك ولم تخف يوما ولم يرتجف قلبك ، هربت مع الطاقم ولم تشهد سقوطه الأخير، هربت فلاحقك واقتحم عليك الحلم ، وكان أكثر بشاعة وشراسة ، سد عليك الفضاء كأنه سحابة دخان ، غطّاك من كل الجهات ، ربض على أنفاسك ، فلم تستطع الصراخ أو التنفس أو الافلات ، توقف قلبك عن النبض ، وضاقت الدنيا عليك ، وأفقت صارخا لاهثا مرتعدا ، وبقيت يقظا متوجسا حتى الصباح ، لم تذهب إلى عملك ، ولكنك عدت بعد أيام لتقدم استقالتك .
لافرق بين الزنوج والفلسطينيين ، فالقتل هو الهدف ، سيارتكم تربض عند مدخل الحسبة ، تسد على الكتلة التي تتجمع ،والفتى ذو المعطف يتقدم بجرأة عجيبة ، يسعى إلى حتفه ، تلمظ يا دان جالجال ، فالقتل هنا سهل ،لعلك لم تجرب الحرب الحقيقية ، صوّب بندقية ال(أم16 )نحو الفتى ، نحو الجانب الأيسر من الصدر ، المنطقة المميتة التي لا نجاة معها ، صوب واطلق الرصاص ، إنه يسقط على مؤخرته ، أول شخص لا يسقط على وجهه ، إنه ينهض ويتقدم ثانية ، لا...لا...ليس هذا حلما يا دان جلجال ، فالبندقية جديدة والذخيرة حية ، والاصابة في الصدر ، رصاصة أخرى في المنطقة الوسطى من الصدر ، يسقط الفتى ثانية ، ثم ينهض متقدما ثانية كأنه حيال رصاص صوتي ...! لا...ليس حلما ، بل حقيقة ، أطفال لا يميتهم الرصاص ؟ شيء لا يصدق ، أشباح حقيقية ، عالم خرافي ، إنه ليس زنجيا ، الاختناق ، الدوار ، الرعب ،الطفل يكبر ، يسد الفضاء ، يجثم عليك ، ينحبس الصوت وتغلق الحنجرة ، تفقد الحركة والقدرة عليها ،يحيطك الظلام والعتمة ، يسد عليك منافذ التنفس واالاستنجاد ، تحاول الافلات ، وتضغط بكل قواك على الزناد ، تخرج الزخة سريعة ، تطرز الأرض نحو الفتى ، وتسقط يا دان جلجال ، ويسقط الفتى أيضا .
لا بأس يا دان جلجال ، فسنك لا تحتمل الموقف ، أفق ، فالمدلكون والمسعفون يبذلون جهدهم ، افتح عينيك وانظر ، ها هو الفتى ثانية ، يسد عليك نور النافذة ، يجلس أو يقعي ممسكا ساقه اليسرى ، يحاول جهده أن يمنع النزيف المتدفق منها ، وانظر يمينك وتمعن المعطف الملقى على الطاولة ، وهذه الحجارة المرصوفة فيه كالبطانة ، مثبتة بعناية لتكون درعا ، متلاصقة كشارع مبلط،أنظر فهذه إحدى رصاصاتك قد كسرت حجرا ، والثانية استقرت داخل حجر أخر .