فتيان الحجارة
سعادة عودة أبو عراق
فتيان الحجارة
قصص قصيرة
منشورات دار آسيا للنشر والتوزيع
رقم الإيداع323/7/1984
الطبعة الأولى
1985
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الإهــداء
إلى أحبائي ؛ مناف ومحمد ، إنها أحداث
لم تشهدوها ، دعوني أقصهاعليكم
سعادة
القصة الثامنة عشر
بيروت
نترك الحقول ونجلس في المقهى ، شيء لا نجد له تفسيرا ، القمح والشعير والعدس ، يتفتت في الأرض وتلتهمه الطيور ، ونحن نحترق في المقهى ، مثل أم العروس ، كما قال أحدنا : فاضي مليان ، كل شيء فينا مشلول ؛ اليدين والرجلين والتفكير والإرادة ، لو سألت أحدناعن هذا المكوث الطويل ، لما أجابك بيسر وإفهام ، بل يتهرب بكلمات متوترة ، كأنه لا يطيق سؤالك ، بل لا يجد في نفسه الرغبة للكلام .
يقول بعضنا الذين يوصفون ببرودة الأعصاب : إن معركة بيروت لا يمكن أن تدوم إلى أكثر مما دامت عليه ، فالأمور ليست على هذا النحو من التسيب ، فلا بد للعالم من أن يضع حدا لجنون إسرائيل .
هذه الجرائد ملقاة على بعض الطاولات ، واللهفة تزداد إلى أخبار جديدة ، فأخبار الصباح صارت قديمة ، وكل ساعة هي في شأن ، هناك تطور دائم ، وتحرك للخط البياني مستمر ومستقر حينا ومتذبذب حينا آخر ، يتأرجح بين وصول المبعوث الأمريكي ، وبين التندبد السوفيتي الذي تذيعه برافداعن الدورالأمريكي المشبوه في الشرق الأوسط .
يتناقص منذ اليوم الأول للحرب عدد الذين يؤمنون بالتوازن الدولي ، والأحلاف الاستراتيجية ، ويزداد عدد الساخطين على دول العالم وشعوبها ومجتمعاتها الإنسانية ، لعله وهمٌ كبير أن نثق بدول كبيرة أو أقل كبرا ، فالعالم مجنون ، والجنون مرض معدٍ ، فهذا أحدنا يصنع شجارا آخر لأسباب تافهة ، كلنا متحفز للعنف والقتال ، نتخاصم مع ذاتنا إذا لم نجد مسربا لإفراغ توترنا العصبي ، فمنذ الصباح لم يتوقف القصف لحظة ، برا وبحرا وجوا ، قصف لم تشهده برلين ولا غيرها ، لم يبق إلا أن تضرب بالقنابل الذرية ، يزداد القصف بشكل لا يصدقه عقل ولا يحيط به وجدان ،آلاف الأطنان من القتابل العنقودية والفراغية والتقليدية ، تتهاوىالأبنية والمستشفيات والمدارس والجوامع ، القتلى بلا حساب وكذلك المشردون ، لا أرقام ثابتة ، بل كل شيء يقدر تقديرا .
على صفحة واحدة من الجريدة الملقاة أخبار كثيرة، هجوم للدبابات الإسرائيلية وانتصار عظيم للقوات الفلسطينية على محور خلدا ، إسرائيليون يرفضون التوجه إلى لبنان، سعد صايل يسقط الجنرال هيغ ، اسقاط طائرة إسرائيلية برشاش دوشكا ، شارون يصل بيروت الشرقية ويجتمع بزعماء الكتائب ، أبو عمار يلعب مع ضباطه كرة الطاولة ، ويسبح في البحر أيضا ، ويتفقد المواقع العسكرية ، دمار في بيروت وجرحى لا يجدون العلاج ، وأطفال مشردون وهجرة جماعية من الجنوب ، و...
تدق الساعة دقاتها المعروفة ، تعلن اقتراب نشرة الأخبار نتكاثف حول المذياع ، يتحازن المذيع ، ويتكلم بصوت متهدج : زعيم عربي يدعو الفلسطينيين إلى الانتحار، زعيم عربي يعلن عن ترحيب بلاده بالمقاتلين اذا خرجوا من بيروت ، زعيم آخر يعلن عن نجاح مساعيه الدبلوماسية وآخر يبعث برسالة خطية إلى الرئيس الأمريكي ، أما زعيم كبير فيصرح بأن هذه هجمة امبريالية ضد حركة التحرر العربي ومنجزاته الثورية ، وآخر يعلن أن قواته سترد الغزاة الطامعين ، وثانٍ يستقبل مساعد المبعوث الأمريكي وثالث يستقبل وفدا من الكتائب ، ورابع يحضر التصفيات النهائية لمباريات كرة القدم وخامس وسادس وسابع...
لا جديد سوى الاستفزاز وحرق الأعصاب ،وخواء وعجز ولامبالاة وشعور بالغربة والضياع ، ومسافات تتسع بين الحلم والحقيقة ، بين الواقع والخيال .
يغير المذيع لهجنه ، ويعلن أن مئات الألوف من الإسرائيليين يتظاهروت احتجاجا على غزو لبنان ، يطوقون رئاسة الوزراء ، وهاهو المذيع يبشرنا بتفتت الكيان الصهيوني ، ويستجلب لنا نصرا من حيث لا ندري ، يرتفع صوت المذيع حماسة ونبدأ بالتثاؤب ونقول لا حول ولا قوة إلا بالله .
تأتي السيارة العسكرية ، تستقر بمكانها في الساحة ،أمام المفهى كعادتها في مثل هذا الوقت ، نعرف جنود الاحتياط من غيرهم ، نعرف وجوههم المتغضنة الكهلة ، فالشباب يرسلون إلى الجبهة ، ويبقى العجائز والمتقاعدون ، يجوبون الشوارع ويتفقدون المناطق ، كأنهم يبحثون عن بقية من شجاعة أو حمية أو إباء .
يطفأ المحرك ، وينزل الشاويش من السيارة ، يدور حولها دورتين ،يصبح مع السيارة في دائرة من الأولاد ، ينظرون إليه على غير عادة ، صامتون على غير المألوف ، الأحداق المسلطة تستفزه تحرجه وتضايقه ، يتلهى بشيء ما ، كأن هواجسا تقيده ، يخرج عن صمته ، ينهر الأولاد فلا يهربون ، يزداد حيرة ويصعد إلى السيارة ويشعل المذياع ، ومذيع آخر يتكلم عن دعوة جادة لوزراء الخارجية العرب لتداول الأمر ورفع شكوى شديدة اللهجة إلى هيئة الأمم.
لعلنا الآن أكثر إحباطا من أي وقت مضى ، فالصمت من ذهب والسكوت من ذهب والاستسلام من ذهب ، وهذا الشاويش يرى كل شيء هادئ ، يدير محرك السيارة، يتحرك بالسيارة قليلا ، يسير ببطء ، يسقط على السيارة حجر ، حجران ، ثلاثة ، يسرع في الحركة ولا يلتفت ، يمضي كأنه يلوذ بالفرار ، كأنه يستعجل اللحاق بالمتظاهرين في تل أبيب ، بل لعله من الحكمة ما يجعله أكثر احتمالا وتسامحا مع عدة أحجار في محيط الصمت والموات .
15/9/1983