شارع النزهة
(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
1 شارع النزهة
في شارع النزهة ، أمام المحكمة يجلس نايف فضّي خَلْفَ طاولةٍ مرتوقة ، يستظل ببقايا شجرة كينا عجوز ، ينظر إلى المارين ، يستطلع مشيتهم ، يستدرجهم بكلمات معسولة متوسلة،عارضا عليهم أنواع خدماته اللازمة في المحكمة .
يتعلق بصره بامرأة سمينة مشيتها متهالكة ، كأن بها عرجا ، تمشي على وجل وتهيب ، أدرك بفراسته _ وهي تختار موقعه المتطرف _ أنها تكتم أمرا يصعب البوح به ، فقال بلطف مبالغ به.
_ تفضلي يا حاجة .
تمهلَتْ ، واقتربت منه ، فمد لها كرسيا هرما ، جلست ولهاثها عميق .
_ أهلا وسهلا .... بماذا أخدمك ؟
استرجعت هدوءها، وبدت ترتب أفكارها، وهي تنظر نحو السيل، تأملها ، فلذَّ له منظرها ، كأن في وجهها ملامحَ مألوفة ، تستريح لها النفس .
استردت بصرها السارح عبر السيل الجاف، وقالت وهي تنفث:
_ والله آخر زمن ...!!
_ كلنا نعاني من جور الزمان ، بماذا يمكنني أن أساعدك ؟
_ أريد أن أطلب نفقة من أولادي .
تناول القلم وأعد نفسه للكتابة ، قال لها :
_ ما اسمك ؟
_ زكية عبده .
توقفت يده عن الكتابة ، وحدق بعمق في وجهها ، ثم قال باستفهام :
_ زكية عبده الصابر ؟
نظرت إليه باستطلاع مريب، تتفرس في وجه هذا الذي يعرفها، كان صمتها إيجابيا ، قرأ فيه صدق ذاكرته ، فصاح بلا وجل كأنه في البرية :
_ أنا نايف.....نايف فضّي
برقت عيناها ، وكتمت فرحا فجر الدم في وجنتيها ، وقالت منكرة معرفتها به:
_ من أنت ... ؟ من نايف ... ؟
لعلها ترمي إلى إيقاف جنونه ، لا بأس ، يجب أن يأخذ نفسا ويهدئ أعصابه ، ويستعيد لغة العاشقين المستعطفة :
_ أتذكرين حينما افترقنا هنا قبل أربعين سنة ؟
_ عيب عليك يا رجل ، أنت كبير السن .
لم يجد في إنكارها شيئا ضد الأنوثة .
_ أتذكرين حينما صعدنا من جانب هذا المسبح ، كنا نتكئ على بعضنا ، فإذا بأبيك هنا ، يسير على هذا الطريق ، أمسك بي فهربت ، وأمسك بك فأذعنت ، كنت صغيرا ، لا... كنت نذلا ...كنت جبانا .
¬ _ في أي حلم رأيت هذا ... إنك حقا لمجنون
جميل أن لا تبوح بمكنونات ذاكرتها
_ نعم ... لقد جننت ، فماذا فعل بك أبوك ؟
_ أتريدني أن أختلق معك الحكايات ؟
جيد ... ، لقد بدأت النقاش ، بدأت الاستجابة .
_ أي حكايات أختلقها ؟ اسألي هذه الكينا التي شاخت ، ألم ترنا ونحن نمر بجانبها . اسألي شجرة التوت السفلى عن الحفنات الذي التقطناها منها ، اسألي القصب الذي لذنا به ، والماء الذي غسلنا أرجلنا فيه ، ذهب الماء ولم تذهب الذكرى .
_ ما بك...؟ هل أنت تمثل على مسرح ؟
_ هذا تعبير لا تأتي به امرأة في مثل سنك ، لقد كنت مثقفة ، تحبين الكتب والمجلات ، تجيدين الرسم والشعر والغناء ، أنت زكية .... ولا تشبهك امرأة في العالم .
_ ما يهمك أن أكون زكية أم غيرها .
_ ليتك تعلمين أهمية ذلك ، لقد جعلتني طوال أربعين سنة مخروطا معدنيا يدور على رأسه ، يحفر الأرض ، لا يدري عمَّ يبحث ، لعله يتوقف الآن أو يستريح.
_ إذن سأتركك لتستريح، فليس لدي ما أقوله.
_ لا أطلب منك أن تقولي ، اسمعي فقط ، لقد كلمتك طوال أربعين سنة ولم أسمع منك ردا ، لقد كنت دوما معي ، في صحوتي ونومي وسهدي ، في مسيري وجلوسي ، في فرحي وبؤسي، في غرفة النوم وغرفة العمل ، فوق الورق وعلى الحائط وفي محفظة النقود ، في وجوه الصبايا الجميلات وفي فترينات الملابس ، في وجه القمر وعلى بتلات الزهور .
_ لو كنت زكية , فما الذي تريده مني ؟
_ ماذا يريد الأعمى غير عينين، ماذا يريد الظمآن غير شربة ماء ، والسجين غير الحرية ، والغريق غير الشاطئٍ ، أنت جزئي الذي ضاع مني .
_ أراك قد أصبحت شاعرا .
_ ها أنت تعترفين بشاعريتي ، وما كنت تعترفين بها ، كنت تقوِّمين لي الأوزان ، وتصلحين لي النحو ، وتسخرين من تعبيراتي البدائية الفجة ، وحينما امتلكت القدرة ، لم استطع أن أُسمِعَك . كنت أناديك بها من على الجرائد والمجلات، وعبر الإذاعة أحيانا ، لكن لا أنت سمعت، ولا رجع الصدى .
سكت ، وسكتت زكية ، مستسلِمَيْن لانفتاح الذاكرة على مكنوناتها ، غارقين في تخاطب العيون ، وسيل المشاعر حد الاستحمام ، لم يسألها عن زوجها الذي مات ، ولا عن عقوق أولادها، ولم يخبرها عن تجواله في بلاد كثيرة ، وعن الفشل الذي لازمه حتى استقر به المطاف كاتب استدعاءات أمام المحكمة ، عن أحلامه التي تابعته كثيرا كالغمام ، لكنها انقشعت بعد طول سفر ، فالوقت الآن أثمن من أن يُبدَّدَ بسرد الذكريات . دنا منها وكأنه يسأل بعد طول جدال :
_ هل تتزوجينني يا زكية ؟
أطرقت وهي تبتسم ، فاسترخت قسمات وجهه ، فرأى السيل يتدفق بمياهه الصافية ، ورأى القصب يحفه ، وبساتين الخص ، وأشجار التوت والمشمش وارفة كما يشتهي .
فقال وهو يخرج ورقة أخرى :
_ إذن... نكتب استدعاءً لعقد الزواج ؟
الزرقاء10/3/2007