(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
3 مقبرة الهاشمية
مصادفة أن تكون مسرحية الورثة التي أذاعها التلفزيون مساء الخميس، تنطبق على ما جرى إثر وفاة زيدان أيوب.
لم يكن موت زيدان أيوب فاجعة لأهل الزرقاء ، إنما مصدر تذكر وحكايات .
يقول رجل لصديقه وهو يخرج من جامع يونس، بعد أن صلوا صلاة الجنازة، مشيرا إلى أقاربه :
_ تفرس في وجوه أقربائه، وميّز الكذابين من غيرهم . انظر كم يفتعلون الحزن.
لبس حذاءه وتابع كلامه خارج المسجد:
_ لم يهتم به أحد في أيامه الأخيرة , لم يزره أحد ، ليسقيَه شربة ماء ، أو يحضر له طعاما، أو يطمئن عنه .
قال الآخر كأنه يعاتب المرحوم:
_ رحمة الله عليه ، مات ولم يتزوج ، لو كانت له زوجة لاعتنت به في مرضه !
_ ما كان يقوى على الزواج .
_ ولكن نساءً كثيرات كنّ على استعداد للزواج منه على علاته .
_ كن يشترطن أن يسجل باسمهن عقارات ، وكان يرى في ذلك ابتزازا.
أُخرِجَت الجنازةُ محمولة من المسجد ، يقترح أحدهم أن تخرج كفه فارغة ، دليلا على خروجه من الدنيا بلا أمواله ، رفض المتنورون الفكرة ، لأن دلالتها بدائية ، أو لأنها صارت حينما مات مانكو .
في الطريق إلى الهاشمية ، حيث تكون المقبرة ، تقاطر المشيعون في قافلة من السيارات ، وقال واحد من الذين يعرفونه جيدا ، وهو يقود سيارته :
_ الدكان التي اشتريتها من زيدان قبل عشرين سنة ، الدكان التي في سوق الحبوب ، كانت منفوسة ، اشتريتها بعد أن دخلت في مزايدة شرسة على الخلوِّ مع غيري ، فكان استثمارا فاشلا .
علق آخر بقوله :
_ زيدان كان حظه عظيما ، زبائنه كانوا من بني حسن ومن الشيشان .
أردف آخر :
_ كان يبيعهم بالدَّين ؛ أسمدة وحبوبا وتقاوي وأدوية بيطرية ، وإذا كثر الدين على أحد ، تقاضى دينه أرضا أو أغناما ، وما كانوا يملكون سوى الأرض التي تنتج لهم غلالا سقيمة . كان يأخذ أرضهم بأثمان بخسة .
صمت برهة وتابع قوله :
_ لقد اشترى أرضا في بيرين بنصيّة حلاوة .
اجتاز المشيعون شارع 36 وانعطفوا باتجاه الهاشمية ، وحينما اقتربوا من المصفاة , نظر أحد السماسرة من نافذة سيارته ، وأشار إلى قطعة أرض كبيرة لزيدان، وقال لمن معه :
_ المصفاة عرضت عليه أربعة ملايين دينار ، لتجري التوسعة الرابعة ، لكنه لم يقبل ، لو قبل لأخذتُ عمولةَ العمر ، لقد خسرت ثمانين ألفا .
_وما الفائدة ؟ فلو باعها فإنها ستؤول إلى الورثة.
_ ولكني أكون قد أخذت عمولتي.
على أرض المقبرة كان كثيرٌ من الفقراء يحلمون بصدقات عن روحه،لأنهم يعرفون أن زيدان من أثرياء الزرقاء ، هؤلاء يُعرفون من حركتهم ومن ثيابهم المعفرة وهيئتهم ، أما الذين يشاركون في التشييع فهم في منأى عن الغبار والتراب.
وبعيدا يتحدث اثنان :
_ رحمة الله عليه ، لم يكن يعتني بنفسه ، لم يكن يأكل جيدا ، كان فطوره ساند وش فلافل، ونادرا ما يأكل قطعة الدجاج في المطعم ، يعتذر عنها ، ويكتفي بالخبز والمرق ، يأتي الحسبة في المساء فيشتري بقايا الخضار والفواكه ، كان يلبس من البالة ، ويسكن في غرفة طينية لها مرحاض ومطبخ ، مبنية في الخمسينات .
سكت برهة واستغفر الله لكنه تابع :
_ يقال إن أحد المارة أحسن إليه بعشرة قروش فقبلها وهو يشكره .
عثر محدثه على موعظة وقال وهو يبتسم لظُرف الحكاية :
_ كان يجمع أموالا ليست له ، إنه وكيل علي ثروته ، يجمعها لأقربائه الذين لم يزوروه إطلاقا.
_ إنه لا يُزار ، إنه لا يقدم كوب شاي ، ولا يتحدث في موضوع .
كانا ينظران إلى أقربائه الذين يفتعلون الهمّة، ويبدون الأسى ، وهم يهيلون التراب في الحفرة ، فتابع جاره القديم ،صديق طفولته :
_ زرته في مرضه الأخير، سألته أن آخذه للطبيب، أو أحضره إليه ، فقال وهو يتوجع من آلام يحاول كتمها ( إنهم جزّارون ) كناية عن أجرتهم العالية التي يتقاضونها .
قال الأخر الذي يحب استخراج الحِكَم:
_ من كل الأراضي التي اشتراها، لم يفز إلا بهذا المتر المربع من الأرض
تليت موعظة وقرئت على روحه الفاتحة ، ووضعت طوبة مفرغة جهة الرأس، فيها ورقة مكتوب عليها زيدان أيوب ، توطئة لبناء الضريح ، ومضى الورثة دون أن يلتفتوا إلى لفقراء الذين يلحفون في الرجاء ، يتوسلونهم قروشا عن روحه ، مضوا إلى سرادق العزاء الذي أقاموه في ساحة بين البيوت ، ليعودوا بعد انفضاض المعزين ، فيجتمعون حتى الصباح ، يحصون مع محامي التركات الأراضي والعقارات والدكاكين وأرصدة البنوك والذمم والديون ، يسمع الجيران جدالهم العنيف و صياحهم الذي لا يخفت حتى طلوع الشمس ، ثلاثة أيام بلياليها وهم يخترعون أسبابا لحيازة أكثر،وما منهم أخ أو أخت أو عم ، إلا هذه المرأة التي تقول إنها كانت زوجته ، وإنها لم تكن مطلقة ، أبرزت شهادة الزواج ، وقالت : إنها تركته لأنه ما كان يطعمها ويصرف عليها كما كل البشر .
في اليوم الثالث كان أقرباؤه يحظون بغنيمة ما كانوا يأملون بها؛ أراض وكواشين وأرصدة وعقود إيجار، وكان القبر الذي في الهاشمية ينتظر من يبني عليه ضريحا .
وكان التلفزيون الأردني يعيد بث مسرحية الورثة , بناء على طلب الجمهور.
الزرقاء 17/3/2007