(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
5 حي معصوم
اسمعوني ما دام أحد في بلدية الزرقاء غير قادر على سماعي ، ولا قادرا على فهمي ، إنها حكاية غير مملة ولا سخيفة ، وعشقي للزرقاء لا مراء فيه ، وعلاقتي مع حي معصوم ليست علاقة طارئة ، لا أذكر متى سكنّا هذا الحي ، أظنه حينما لم يكن حيا ، بل أرض الشيخ معصوم الشيشاني ،وكان بيتنا الترابي وحيدا على تخوم الأرض التي تطل على السيل ، لا أدري بأي عمر رأيت سهوبا من النباتات الغضة على امتداد بصري ، وحينما أردت أن اقترب من هذا الموج الأخضر نهرتني أمي وأخافتني بالشيخ معصوم ، واليوم أخمن تلك السهوب ، فإذا بها دونمات ثلاثة كانت تزرع بالشعير.
لعلكم تقدرون حق التقدير مكانة هذه الصورة في نفس طفل ينظر إلى الحياة لأول مرة ، وكيف آثرتها الذاكرة بالرسوخ ، فجلَّت على المحو والتشويه ، لذلك فهي أكثر إلزاما لإرادتي وتوجيها لعقلي ، وأرجوا أن تعينوني على مجلس بلدية الزرقاء ، فهو لا يعير لهذا الكلام أذنا ، وأن قطعة الأرض التي أطالب بها هي جزء مني .
تصوروا معي ذاك العناء الجميل ، الذي كنت أتنكبه وابن عمي يوميا في رحلتنا إلى مدرسة الأمير طلال ، وأتصبر على الخوف الذي يعتريني وأنا أمر بجانب المقبرة ، ذلك أنني في النهاية سأشتري من الدكان المقابل حلوى ، وأتلصص قليلا على الدكاكين المجاورة . لكنني أدرك الآن كم كان عنائي حقيقيا ، بعد أن وصل إلى بيتنا الطريق المعبد ، وافتتحوا قريبا منا مدرسة المروة ، وأن لا أحد اليوم يمشي كل هذه المسافة .
يقول مدير المنطقة وهو يدير لي ظهره :
- يا رجل قل كلاما غير هذا، كل شخص له عاطفة لملعب صباه. فلا تصنع منها قضية .!
لم تكن لي حارة أتسكع بها ، وأعرف مفرداتها ،لقد كان لنا بيت وحيد من التراب،على أرض الشيخ معصوم ، وكان أبي يذهب كل يوم بعيدا إلى أول الوادي ، حيث الكسارات التي تثير الغبار والضجيج ، كنت أراه يكسر الصخور الكبيرة ، ويلقمها للكسارة الشرهة ،لتنزل ترابا وحصىً ، أدركت العمل الهائل الذي يقوم به أبي ، وإنه لبطل يُعتَزُ به ، وحينما كان يسألني أحد عن عمل أبي أقول له بافتخار؛ في الكسارة ...! لا ألحظ الإعجاب في عينيه ، ولكنني أبقى على إعجابي بوالدي الذي يعمل مالا يستطيعه الآخرون .
وإعجابا بوالدي الذي يعمل مالا يستطيعه الآخرون ، كنت أنوي العمل بمهنته ، أبديت له استعدادي ، لكنه نهرني بقوله :
- أشغال شاقة ...!! تريد أن تعمل بالأشغال الشاقة ؟.
كان أبي يعلم الخطر الذي يحيق به ، ويريد أن يجنبني مستقبلا غير مستقبله ،ويكتفي بأن لا ينهرني حينما يراني أطل عليه متفرجا من على الربوة ، حيث انزلاقي مأمون ،كما هو متاح لأمي أن تراني من شباك البيت ، وأنا أحمل له زوَادة الغداء.
أعرف أن لكل إنسان حكاياته الحميمة ، التي يلذ له قصها ، ولكنها لن تكون قاسية كما هي معي ، حينما رأيت أبي تهرسه صخرة عظيمة كان يعالجها ، لم أميز وقتها بعد أن تجاوزته الصخرة بعيدا وهي تتدحرج ، بين شماغه الأحمر وبين دمه ، بين قميصه ولحمه الذي تفتت ، بين قلبي الذي تفطر والصخور التي تُطحَن ، هل ذهب قلبي مع قلابات الرمل أم ذهب دمه مع الحصى والتراب ،وأي عمارة في الزرقاء بنيت بقلبي المفطور وعظام أبي ، وما الأجدر أن يُفعل مع عائلة ثكلى ، أن تَرْحَل أو تُرَحَّل ؟
لا تحزنوا ، فما عاد حزني أخضرَ ، جاءنا أناس كثيرون ، دفنوا أبي ، ولم يدلني أحد على قبره ، ورحلت بنا أمي إلى حيث لا تسمع صوت تفجير الجبل ولا ضجيج الكسارات ولا سعي القلابات الكسول وتململها ،ذهبنا على وعد من الشيخ معصوم أن يبقى لنا البيت وقطعة الأرض، ولا تسألوني كيف عاشت أرملة مع أطفالها في حي شاكر ، وكيف نَسِيَنَا الحاج محمد معصوم ، ومات ولم يذكِّرَه أحد بوعده .
(يا أعضاء البلدية ورئيسها ، لقد جعلتم بيتنا الترابي ، والمكان الذي هرس فيه أبي ، ملكا للبلدية ، وجعلتموه وما حوله متنزها يدر سرورا على قلوب الناس ،ومالا على جيوب المتعهدين، أنا لا أطالبكم بالوعد الذي قطعه الشيخ معصوم لنا ، ولا وفق القوانين المعمول بها وغير المعمول بها ، فأبي الذي انتقمت منه الصخور ، عقابا على تكسيره لها ، لتتسعَ الزرقاء كل هذا الاتساع ، أطالب بالأرض الضيقة التي هُرس عليها ، لا تبرعا ولا منَّة ، بل بثمنها ، فأنا أحوج ، بل أنتم أحوج لأن أبني عليها ضريحا لأبي )
هاهم أعضاء البلدية لا يملكون المزاج العاطفي لكي يردوا علي ، ولا يستطيعون إقناعي ، فالمخططات قد تم توقيعها من دائرة الأراضي ، وأن لا مجال لتنازل البلدية عن شبر واحد منها ، لأنها في نظر القانون ملك لوزارة البلديات ، وشرح يطول من خبراء في تفسير القوانين ، ومن موظفين يجيدون الدفاع عن توجهات رؤسائهم ، ومن رؤساء لا يطلب منهم أن يكونوا مقنعين .
أيها الناس ، لا أملك أن أغادر حي معصوم إلى عمان ، ولا أملك أن أرى المكان الذي هرس فيه أبي قد أصبح مجلس أرجيلة ، ولا أملك أن اقنع أحدا بما تعتمل به عواطفي .
أيها الناس ، لا تصدقوا أن الزرقاء بلا قلب ، بل قولوا : قلبها لا ينبض
الزرقاء 26/3/ 2007
