(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
6 نادي الضباط
لم يكن هذا الصباح عاديا عند فاروق بازرجي ، فها هي زوجته الجديدة تطيعه في رغباته، تخلع الجلباب والحجاب ، وتقبل أن تلبس فستانا ، وتسرّح شعرها وتلبس برنيطة ، وترافقه إلى نادي الضباط ، يمضون هناك ساعة أو ساعتين ، فأم فؤاد ماتت قبل سنتين ، ولم تلبي له هذه الأمنية خلال ستين سنة من الزواج .
ما زال فاروق بازرجي يجاهد ما أمكنه أن يبقي على تاريخه العسكري ، متمسكا بمظهرية عسكرية عاشها من ستين سنة ، حينما قُبِل تلميذا مرشحا قبل أن ينهي دراسته ، وهاهو منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره ، مهووسا بالحياة العسكرية ، التي يراها في ضباط الانتداب البريطاني وجنوده ، المقيمين في معسكر الزرقاء ، كأنما يعيش في حلم لذيذ متصل مذّاك اليوم، تراه في شوارع الزرقاء يمشي مشية عسكرية ، كأنما يستعرض طابورا أمام منصة الشرف ، يضع عصا المارشالية تحت إبطه ، وجنادا على صدره كالوشاح ، يتدلى منه جراب مسدس، حركات لافتة مستهجنة مما دفع أحد الباحثين في الجامعة الهاشمية أن يدرس هذا السلوك، فماذا يريد هذا الضابط المتقاعد من عمل يثير كل هذا الاستهجان والسخرية ؟
فاروق بازرجي متصالح مع نفسه ، لا يرى فيما يفعله شذوذا ، فعلى كل إنسان أن يخلص لما يحبه ، لقد أحب الانجليز بل أحب بزاتهم العسكرية ، يراهم صغيرا وهم يسيرون مع زوجاتهم متنزهين ، هم بقيافتهم العسكرية وهن بملابسهن الهفهافة والقبعات المتموجة ، مزينة بريش النعام، يدور حولهم كلب مستأنس مربوط بسلسال ، لا يعيرون اهتماما لأحد ، أبهة ارستقراطية تعكس الأبهة الإمبراطورية , عند باب النادي ينزلون بوقار محسوب ، كما في اللقطات السينمائية ، يجتازون حراس البوابة بلا سؤال ، بل تُؤدى لهم التحية ، ثم يمضون إلى الحديقة المعشوشبة الواسعة ،يصعدون الدرج إلى المبنى ، إلى مكان خاص بهم ، محرم على غيرهم .
يبلغ الثمانين ، وما زال على عاداته التي اكتسبها قبل ستين سنة ، يحلق في السابعة ذقنه ، ويشذب شاربيه ، يستحم ويلبس روبا حريريا فوق بيجاما ، يمضي إلى حديقة البيت الصغيرة ، يجلس إلى الطاولة المخصصة ، ويدخن الغليون كمن هو يتبجح ، ويقدِم له فنجان القهوة خادمٌ استخدمه لهذا الغرض في الساعة الثامنة صباحا فقط.
أيام عذبة تلك التي كان تشتعل بها الأمنيات ، فتضيء الدنيا ويورق الزمن ، حَلِمَ طويلا بأن يكون ضابطا ، يسير بأبهة ، يخافه الناس أو يهابونه ، فيرتقي أو يرقّونه إلى مرتبة يورثها لأولاده وأحفاده ، كما هم البارونات في بريطانيا ، ويعظمونه بلقب بيك أو باشا ، لكن جيرانه يسخرون من رطانته بالانجليزية رغم ضعفه بها ، ويتندرون بحكاية مفادها ؛ أنه ذهب إلى منجِّد عند جامع الشوام / عمر , وقال له : سكس فرشة و فور لحاف ، هاو متش بدك عليهم ؟
ويقول جيرانه إنه اشترى كلبا لكن زوجته أم فؤاد رفضت هذا التقليد السقيم ، ورفضت أيضا الخروج معه كما تخرج نساء الانجليز ، والحفلات التي تقام في النادي ، واللباس الذي أرادها أن تلبسه ، والأرستقراطية التي يسعى للصعود إليها .
توفيت زوجته أم فؤاد قبل سنتين ، ماتت وتركته وحيدا ، بلا ولد ولا حفيد ولا قريب ولا صديق ،فالناس في غنى عن شخص ، يرى نفسه من اللوردات ، فقد سمى ابنه فؤاداً كما سمى الملك فاروق ابنه فؤادا ، وشحنه بشعور العظمة الملكية، والإعجاب المفرط بالإنجليز ، والتحقير الشديد للعرب ،وأرسله إلى بلادهم دارسا ، فدرس ولم يعد إطلاقا ، تزوج وعمل واستوطن ، وكان يصف الزرقاء بأنها بلد البدو والعمال واللاجئين ، ولم يجد في نفسه رغبة أن يأتي ليشارك في تشييع أمه ، فالزرقاء لا تصلح مهبطا لقدميه . وكان يرفض صراحة أن يستضيف والده لمدة شهر، وغير معنيٍّ أن يقضي لوالده شهوة طالما تمناها .
وها هو أخيرا يتزوج من فريال ، امرأة في الثلاثين ، قَبِلت به بعد ممانعة شديدة ، على أن يكتب باسمها بيته ، الذي هو في حي الضباط ، وكان زواجا يثير التندر والحكايات ، قيل لها (روحه في يدك ، إن أردت التخلص منه ، اسقيه حبة فيا غرا ) لكنها كانت تعاني من رجل لا يعرف عن الزمن شيئا ، يتمسك بلحظة عبرت منذ أربعين سنة أو أكثر ، يتقمص العمر الذي خلعه هناك ، وما زال يرى في الذهاب إلى نادي الضباط برفقة زوجته _كما كان الانجليز يفعلون_ أمرا يعيد له عهد الشباب .
منذ الصباح وهو يعد نفسه لهذا المساء الرومانسي في نادي الضباط ، يلبس بدله فاخرة نضرة على جسم هرم غير نضر ، يطلي شعره الأشيب بالزيت ، ويرش العطر ويتفقد عصاه اللامعة ، وغليونه الذي ما عاد يستخدمه كثيرا _ لكنه من لوازم الشخصية_ أما هي فكانت كما أراد ، بلوزة وفستان شنيل ، وشعر منفوش مصبوغ ، وعنق يستريح عليه عقد من اللؤلؤ، وفوق الرأس برنيطة بنية تزينها ريشة طير هفهافة ، وفي اليد حقيبة يد مصنوعة من جلد الثعلب .
تنازل عن الكلب الذي لم يستطع أن يحصل عليه ، لكنه حينما أوقف سيارة الأجرة ، طلب من السائق أن يمسحها ، استغرب السائق الطلب ، لم يستسغ الأمر فمضى ، وجاء ثان وثالث ورابع ، إلى أن جاء سائق فهم الأمر على نحو آخر ، نزل ومسح السيارة ، ركب وزوجته الكرسي الخلفي ، ونزل عند بوابة النادي ، بعد أن أعطى السائق إكراميته ، بذل جهداً كي يقف منتصب القامة ، يسوي ياقته ويعقد أزرار جاكيته، وفريال كأنها تتعلق بذراعه اليمنى، تنظر إلى فستانها وملابسها التي لم تعد سائدة ، يمضيان إلى الحديقة المعشوشبة ، يشعر بتعب فيميلان إلى طاولة ، يجلسان ، يأتي النادل بالقهوة السادة ، كضيافة مجانية ، يحدثها عن ذكرياته المطبوعة على كل ركن ، فقد سمع عبد الوهاب وهو يغني في هذه الساحة ، وسمع أيضا عبد الحليم حافظ يغني في حفلة زفاف ابن حيدر شكري ، سألته بحماس عن عبد الحليم حافظ ، بعد أن شاهدت مسلسلا عنه على شاشة التلفاز ، فبدا أنه يجيب عن فهد بلان ، لم تشأ أن تكسر صورته داخلها ، فقالت تغير الموضوع :
- ليس هذا مهما ، ماذا عن أول مجيء لك هنا ؟
- لقد كان حفل ترفيعي إلى ملازم ، بعدها حصلت على بطاقة عضوية ، وصار من حقي أن احضر متى أشاء . وكذلك حفل تقليد الأوسمة، وفي الأعلى _وحول البركة أقامت لي مديرية الأركان بعد التقاعد حفل وداع.
نهض ، كأنما وجد في نفسه رغبة في لكلام ، بدا كأنه مرشد سياحي ، راح يشير بعصاه :
- هناك سلمت على جلالة الملك ، بمناسبة عيد الأضحى المبارك عام ....
لم يستطع أن يتذكر العام ، كأنه قد غُم عليه ،وقال بعد شرود :
- حفل زفاف فريدة ابنتي كان حول البركة، وهناك داخل المبنى دعانا رئيس الوزراء لمأدبة عشاء .
بدا لهاثه عاليا ، وتقطع أنفاسه واضحا ، وهو يرتقي الدرج المديد إلى مبنى النادي ، مسترسلا في ذكريات تشع له سحرا ، تجعل المسافة بين الحاضر والماضي بسيطة ، وزوجته تعينه على الصعود بشكل خفي ، تريحه دقائق على كل درجة ، كي يكمل ما استحضر من ذكريات ، يحكي عن جلسة يتمناها على الشرفة ، يشرب كوبا من الشاي كما شربه أول مرة ، قبل خمسين سنة .
على الدرجة الأخيرة، اهتزت عصاه وثقل وزنه، ولم تستطع فريال أن تعينه أكثر ، سقط .... , وتدحرج درجات كثيرة .
وحينما استقر، كان بلا صوت أو حراك.
الزرقاء 24/ 3 / 2007