(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
7حي رمزي
لا احد يعرف مصدر الفكرة التي دفعت مجلس بلدية الزرقاء ، كي يجعلوا من طفل اسمه قصي رئيسا للبلدية ليوم واحد ، ويمارس هذا الطفل الصلاحيات الممنوحة للرئيس ، فهل تراها فكرة عبقرية أم فكرة مجنونة ؟ كيف اقتنع بها أعضاء المجلس وأرغموا الرئيس على قبولها ؟ فهل هي مضاهاة لبرلمان الأطفال ؟ وصحف الأطفال وإذاعة الأطفال ؟ أم اتساقا مع الفكر التربوي الحديث ؟
كما لو أنهم متلهفون على هذا القرار ، يخاطبون مديرية التربية والتعليم ، ويطلبون منها فتى في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمره ، لم يفهم التربويون الفكرة ،وما أرادوا فهمها ، فاتصل رئيس قسم النشاطات بمدرسة الأمير حمزة ، واخبر المدير أن يعد طالبا في صباح الغد ، ليكون في الساعة السابعة بمبنى بلدية الزرقاء ، وأن يرافقه مربي الصف ، وأن يخبروا أهله بهذه المهمة .
احتار المدير ، لكنه اجتهد واختار الطالب قصي منصور .
في الصباح ،كان رئيس البلدية في إجازة إجبارية ، كي لا يتدخل في التجربة الريادية ، ذلك أنه يرى في الأمر مؤامرة ما ، فاغتنمها فرصة ليذهب إلى وزير البلديات، يشرح له هذه المهزلة ، أما البلدية فقد تزيّنت بالأعلام واليافطات المملوءة بالشعارات ، واصطفت فرق من الكشافة ، يصاحبها فرقة موسيقية ، وجمع غفير من المدعوين والمواطنين ، ومندوبو الصحف والإذاعة والتلفزيون .
قصي محتار ، كما هو مدير المدرسة القابع في مكتبه ، والأكثر حيرة هو إسماعيل ، مربي الصف الذي يرافقه ، الذي لا يعرف كيف يوجِّهَهُ ويرشده خوفا من فشل محتمل ، إذ كان بالإمكان ارتداء الملابس اللائقة ، ولم يأتيا بملابس عادية لا تشعر الآخرين بأهميتهما ،إنهما يتفاجآن بهذا الحشد الذي يصطف لاستقبالهما ، فتعزف لهما الموسيقى ، ويتقدم المحافظ بكل مهابة ويسلم علي قصي ، مرحبا به ، كما يليق برئيس بلدية محترم ، ويقام حفل لتنصيبه ، وكذلك المتصرف ومدير الشرطة وأعضاء المجلس البلدي ، دهش قصي ومعلمه إسماعيل ، فلعلهما في حلم ، أو مسرحية يشاهدانها ويشتركان بها ، أو أنهما أمام الكمرة الخفية ، إنهما لا يفقهان ما يجري ، يشيرون لهما نحو مكتب رئيس البلدية وهما مسلوبا الإرادة أو منومان تنويما مغناطيسيا.
يشيرون له أن يجلس على كرسي الرئيس ، الذي عُدِّل ارتفاعه ليناسب قامته ، ويملأ الحاضرون الغرفة ، ويلقي المحافظ فرمان التنصيب :
_ جعلناك يا قصي منذ الآن وحتى الثامنة من صباح الغد رئيسا لبلدية الزرقاء ، لك صلاحيات الرئيس لتتخذ القرارات التي تراها مناسبة ، واعلم أن قراراتك قطعية وملزمة للجميع ،ونشكر معلمك على مرافقتك ، ونرجوه أن لا يتدخل في ما تقرره .
ذهب المحافظ وهيئة التنصيب وكذلك الصحفيون والمصورون ، ووجد إسماعيل أن وجوده غير مرغوب به ، فلو كان يعلم أن قصي تنتظره هذه المهمة ، لاجتهد أن يجعله أكثر تبصرا بأشياء كثيرة ،فالزرقاء زهرة بلا أريج ، نموها العشوائي يدل على قيادة لا تحسن التدبير.
شرب قصي القهوة المرة على مضض ، منتظرا المديرين التنفيذيين ، دخل المدير المالي وتكلم عن القروض اللازمة لمشاريع البلدية ، ومدير الحركة الذي يرى في تضمين إصلاح المركبات وإلغاء مشغل الصيانة مصلحة عليا ، ومدير النظافة إذ يرى أن تفرض ضرائب جديدة كي تصبح الزرقاء أنظف ، ومدير الموظفين يطالب بعلاوات وترفيعات ليصبح العمل أجود ، ومدير العاملين بحاجة إلى صلاحية جديدة لتوظيف المزيد .
أين أنت الآن يا أستاذ إسماعيل ؟ هكذا ينفث كلما كلمه مدير برطانة كأنه يستغبيه ، وكلما لاطفه مدير لكي يضع توقيعه ، وكلما يرشوه آخر بقطعة من الشوكلاتة الفاخرة ، وكلما يستخف به مدير يرى أنه أكبر من الزرقاء ،ماذا لو استشرتك يا أستاذ إسماعيل في التوقيع ، إني أراهم يجبرونني عليه ، ولا أراني سأوقع.
تكومت الملفات أمامه ، استراح بذقنه على راحتيه المرفوعتين ، في حالة من حالات التفكير والتأمل ، فما دام الأستاذ إسماعيل بعيدا ، فلماذا لا يستحضر أقواله ...! لقد قال يوما " كن صادقا مع نفسك تجد تفكيرك لا يخذلك وهمتك لا تخذلك والناس لا يخذلونك " إذن فلأكن صادقا مع نفسي ، هكذا هتف في داخله كما هتف أرخميدس ذات مرة وجدتها ... وجدتها .
فكر قصي فيما يريده ، فيما يرغب به ، فيما يؤلمه ، فيما لا يجعله مؤتلفا مع نفسه ،فبيتهم في حي رمزي ، مطل على مساحات شاسعة من الأراضي التي يقال أنها للبلدية ، يخاف ظلمتها وسكونها ليلا ، يخشى القصص التي يحذره الأهل منها ، يشعر انه قاطن في البريّة ، يتمنى أن يدخل حديقة مكتوب عليها ؛ للأطفال فقط ، كما هو للعائلات فقط . إذن فليأمر بأن تكون هذه المساحة حديقة عامة ، وليس على بابها من يتقاضى رسما للدخول .
ثم ماذا يزعجه ؟ تلك المكتبة القابعة في سوق البلدية، التي يتجشم عناء السفر إليها ، إذا ما لزم الأمر ، فلماذا لا توجد مكتبة عامة قرب بيتهم ، إذن فلتكن مكتبة للأطفال في حي رمزي . ثم ماذا ؟ ملعبا للرياضة ؟ فليكن ذلك .
هكذا وجد أنه قد عثر على شيء يفعله بقناعة ، فراح يبحث بهمة في الملفات المكومة أمامه ، تذكر أن مدير الحدائق لم يأت ، ومديرالشؤون الثقافية لم يأت أيضا ، لعلهم لا يريدون شيئا ، لا بأس من استدعائهم .
جاء مدير الحدائق أولا، سأله عن قطعة أرض تصلح حديقة عامة, قال على الفور،
_ في حي رمزي ، تعبت من تقديم مخططاتي ومشاريعي ، إن أهل الزرقاء لا يتنفسون إلا في جرش.
_ إذن هات مخططاتك ودراساتك لكي أوقعها.
الزرقاء 29/3/2007