(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
8 قصر شبيب
كعادته قَدِم ( ربيعان ) من الشرق ، حاملا على حماره منتجات يبيعها : سمنا وجميدا وصوفا وزبدة ، ويسوق عنزات مذعورة لا يفتأ ينهرها بعنف وهي تحرن ، وعلى منكبيه فروة بهت لونها ،مثقلة بالغبار وروائح ألأغنام والدخان ، يغذ الخطى إلى دكان سليمان العودة ، يحرص أن يصله باكرا قدر ما يستطيع ، لعله يعود إلى مضاربه قبل المغيب .
لم يُفاجأ إذ رأى حانوت سليمان مقفلا ، لعله تأخر في النوم ، لا باس سيجلس ريثما يجيء ، لكن الشمس ارتفعت في السماء ولم يأت سليمان ، والزبد بدأ يذوب ، والناس تسأله ماذا يبيع ، ففكر ثم صاح بصوت بائع لا يحسن النداء :
_ السمن ...الجميد ....
يحوطه المارة ، ينظرون ويعاينون ، وربما يتذوقون ، وربما يسومون الأغنام الرابضة ، يشترون بالسعر الذي يبيعه لسليمان ، ويقولون وهم ذاهبون ( يا بلاش ) عندها أدرك أن سليمان كان يستغله ويشتري منه بأسعار بخسة ، رفع السعر ولم يكف الناس عن الشراء ، وعاود الرفع واشتروا، وباع بضاعته جميعها ،إلا الأغنام التي أخّر بيعها وبالغ في ثمنها .
لأول مرة شعر أن التجار يربحون أكثر مما كان يتصور ، وأن سليمان كان يخدعه وهو يقول له (شروة خسرانة ) لذلك قرر أن يكون تاجرا ، فكرة راودته بعدما امتلأت جيوبه بحفنتي برايز وقروش ، لها وزن وصوت يثيران الرضا ، لم يقلق كثيرا وهو يرى الشمس تغيب ،و لو باع أغنامه الأربع لأمكنه الذهاب إلى بيت سليمان والمبيت عنده ، لم يأسف فقد كسب أضعاف ما توقع، رغم قلة خبرته في بيع الأغنام ،إلا أنه ينظر إليها بحبور ، ينظر إلى شقاوتها وهي تستطلع بأنفها كل شيء ، ترمرم الورق وتنطح بسطة التفاح، يصيحون عليه ، ينهرها ، ويعتذر ، ويعتذر أيضا عن نهيق حماره وبوله وروثه ، الذي دفع بعضهم للشكوى عند مفتش البلدية
يجيء مفتش البلدية والشمس دنت من مغيبها ،وربيعان يفكر بعشائه وبالمبيت في الزقاق ،متدثرا بالفروة ، يخبره موظف البلدية أن ذلك ممنوع ،وعليه أن يبيت خارج المناطق السكنية ، تجادلا طويلا حد الاختصام ، أقبل الناس مستطلعين ، وجد مفتش البلدية نفسه يكلم رجلا من الفضاء ، فقال بحزم ، لا يُسمَح بمبيت الأغنام في الشارع ، معك مهلة ساعة ، دبِّر نفسك وإلا صادرت لك الأغنام .
أقفر الشارع إلا من مجموعة من الشباب والجنود الذين يقطعون تذاكر سينما الحمراء ، يأتي أبو شمَّة ، يصطاد فريسة يعرف معالمها جيدا ، ويعرف كيف يستدرجها ، يدنو منه ويشعره بوجاهته ومكانته في الزرقاء، ويقول له:
_ اسمع يالأخو... أنت رجل غانم ، وان شاء الله ما تبات إلا عندي .
قال وقد استشعر الفرج :
_ والله انك نشمي ... الدنيا إن خليت بليت .
سار الاثنان في شارع مقفر نحو الغرب ، تمتد على جانبيه أبنية طينية خفيضة ، لا أرصفة ممهدة ، ولا إضاءة كهربائية حينما بدأت العتمة تنتشر مع أذان المغرب ، وصلا جامع الشيشسان ، استأذنه أبو شمّة خمس دقائق ليؤدي صلاة المغرب ، فأيقن ربيعان أنه شخص ورع ، وما أن خرج حتى تابعا سيرهما نحو الغرب ، كان قصر شبيب مهيبا في شفق المغيب الداكن ، شعر بقلق ، فأراد أن يختبر وساوسه وظنونه حيث قال :
_ وين ودك توخذني ؟
_ شايف هذاك القصر ...؟
_ أيوة
_نروح عليه....
وصلا القصر ، استشعر اربيعان عظمة البناء ، والساحة الكبيرة الممتدة أمامه ، والوادي الخصيب الذي يطل عليه من الخلف ، فتشابكت في ذهن ربيعان أفكار كثيرة ، فرضتها عليه الدهشة والمفاجأة ، قطعها عليه أبو شمة وهو يشير إلى العتمة الموحشة داخل القصر ويقول:
_ أرجوك لا تواخذني ، بين عذرك ولا تبين بخلك ، القصر ما بيه لا ضوّ ولا فراش ، تراني رحّلت منه قبل أسبوع ،لأني ودي أبيعه.
قال باستغراب :
_ تبيع هذا القصر ...! وليش تبيعه ؟
_ يا الأخو أهلي كثار ، كل يوم وهم عندي ، ميكلين شاربين نايمين ، صار عليّ دين كثير، قلت أبيعه واخلص من الدين والظيوف إللي ما تخلص .
أيقن الآن أنه من الأجاويد حقا ، وكبر الحلم الذي يراوده بالتجارة فقال كأنه يتمنى :
_ لو كنت اعلم ، كنت اشتريته منك .
لم يدر أبو شمّة أن الكذبة ستصبح حقيقة في ذهن ربيعان ، فهل يمكن أن يشتري القصر؟ فتابع تأكيده :
_ أنا عارضه من زمان واحد قال لي وأنا في المسجد ، أجيب لك العربون بعد صلاة العشا، إن بدك تشتريه هات عربونك .
_ وكم بدك عربون ؟
_ قد ما معك ، عشان أحلف له يمين صادق ، وأقول له العربون في جيبتي .
شعر أبو شمة أن ربيعان قد تفاجأ بالموضوع ، وأنه بحاجة إلى مسافة للهبوط ، فقال يطمئنه :
_ أنت ضيفي الليلة ، خلّي الحمار الغنمات هون ، وبكرة نتفاوض ع السعر ويا لله نروح نتعشى .
صاح بنداء غريب ، فجاء فتى كأنه ينتظر الإشارة فقال له :
_دخِّل الغنمات جوَّة ، ودير بالك عليهم يا ابني ، أنا راح أتعشى أنا والضيف ، ونروح بعد ع السينما .
استسلم اربيعان لهذا الكرم والأريحية، وغادره الحذر الفطري ،وترك الغنمات للفتى يحرسها وأعطى ما معه من قروش وبرايز إلى أبي شمة ، الذي مضى معه إلى السينما ، مرّا بمسجد الشيشان وهم بالدخول إليه ، لكنه أحجم بحركة تمثيلية ليؤكد وجود مشتر في المسجد وهو يقول :
_خلص...، ما له عندنا شي .
وعندما وصلا سوق الحجاوي اشترى رغيفين وقالب حلاوة ، ومضيا إلى سينما الحمرا ،
في عتمة السينما كان ربيعان يضحك بصخب وهو يرى نجيب الريحاني يبيع الترام للفلاح الصعيدي ، ويود لو يتشارك وضيفه متعة الضحك ،حاول لكزه بكوعه ، تفقده ، لكنه لم يجده .
الزرقاء 3/3/2007