زرقاء بلا ذنوب
كتاب منشور
بقلم سعاده عوده ابو عراق
9 عوجـــــــان
[ إن حقا ما يقولونه عن الزرقاء ، بأنها بلد العمال والجنود ، فإنها ستكون الأرض المثالية الخصبة ، لزرع ثورة عمالية تعمُّ المنطقة ] هكذا قالت فدوى شامخ ، في اجتماع للقوى اليسارية وأضافت؛[ فعمال المصانع المنتشرون في الزرقاء هم المادة الأولية التي تبنى منها الثورات ، وهم طبقة كما كل الطبقات المتجانسة لها ماضيها و صيرورتها وحتمية انتصارها ، ولم يبق سوى أن تعي ذاتها وواقعها ، ونحن الأولى بنشر الوعي فيها ، لنجعلها فاعلة مع نفسها وفاعلة في غيرها ]
دهش الحضور من هذا المنطق المتماسك والرؤية المبتكرة والتفكير الإبداعي ،خاصة الشيوخ الذين يحفظون الكتب الماركسية غيبا ، فلماذا لم يخطر ببالهم ما خطر ببال هذه الصبية الرائعة ، ذات الحضور الآسر ، الذي سيجعل منها طليعيَّة متميزة ، إنها ماسة برزت في تلالٍ من الحصى .
تابعت مداخلتها دونما تحضير مسبق ، [ ويمكننا أن نرى الجنود أيضا طبقة ، ذلك أنهم جاؤوا من طبقة الفلاحين ، وما وسعهم الوقت حتى يخلعوا جلدهم, وما أسعفهم الوقت لكي يصبحوا عسكريتاريا ، إنهم قريبون من طبقة العمال ، وعليهم أن يؤمنوا بترابط المصالح بين الطبقتين ، وعليهم حماية الطبقة العاملة ، والتضامن معها ، فما كانت ثورة البلوريتاريا لتنجح في روسيا لولا تلاقح هاتين الطبقتين ، لإنتاج الثورة البلشفية العظيمة ].
كأنهم اهتدوا إلى برنامج عمل، يعيدون به بناء المجتمع، بعد هزيمة مؤلمة في حزيران، أيقظت الشعوب العربية ، لتأخذ الراية من دولها ، فاختارها المجتمعون مسئولة التنظيم في الزرقاء . جعلت مقرها في عوجان ، حيث مصانع الأجواخ والألبان والملابس ومزارع الدجاج ومناشير الحجر وعمال الفوسفات وشركة الانتاج , فأثبتت أن لها قدرة فذة على استقطاب العمال والعاملات ، تلقاهم خارج المصانع أو قربها ، تكلمهم عن حقوق العمال المنهوبة ، عن فائض القيمة ، عن قوانين التحول التاريخي ، عن قدرة الطبقة العاملة على التغيير، وعن التضحية والنضال الواجب في هذه المرحلة .
سمع العمال منها والعاملات ما لم يسمعوا به من قبل، فصاروا يرطنون بمصطلحات حفظوها ، وهم فرحون بترديدها ، كأنهم اكتشفوا علما جديدا ، يتحدثون بإعجاب عن الأفكار الجديدة التي اكتسبوها .
كثر المستمعون لها ، فتداول الناس أفكارا ومبادئ جديدة ، شعروا بدم جديد يمخرهم ، فكثرت الاجتماعات والمحاضرات ،وولى زمن الجفر وسجن المحطة والسجن العسكري ، وتكلموا بإعجاب عن فدوى شامخ ، عن هذه الفتاة الجميلة المفوهة ، و كما يقولون ؛ كأن في حنجرتها راديو ، تُشعر الرجالَ بأنها ليست سهلة فترتجى ، رغم العذوبة في كلامها والرشاقة في حركاتها ، والدلالة في لباسها والأريج في أنوثتها الواضحة ، أما جرأتها التلقائية وتدفق أفكارها فإنها تجعل الشباب المتهور أكثر حذرا معها ، فصار الاستماع إليها غاية ، وصاروا يَقبَلونَ التعلّم منها والانصياعَ لقيادتها ، فأي رجل يملك أمام ( رجولتها ) رجولته ؟
لم يأخذ الناس أفكارها فقط ، إنما أصبحت نموذجا عصريا ، وما يجب أن تكون عليه المرأة ، في الفهم والجرأة واللباس ، فزيها أصبح زيا للفتيات ، فبنطلونها المموه صار دليل الحركة الفاعلة للمرأة خارج البيت ، ودليلا على الجدية المفرطة ، وحجبا لبعض المفاتن التي تكشف عنها التنورة القصيرة ، وشعرها الفاحم القصير المقصوص إلى شحمة الأذن ، دليل انطلاق من أسر المقاييس الأنثوية ،ويمكن لفه بمنديل مثلث ، أو تغطيته بكوفية ( أبو عمار) ، وقميصا يقصر عن ذراعين ناعمين ، ويكاد يلملم نهدين نافرين .
لأول مرة يرون رأي العين امرأة تفعل ما يفعله القادة من الرجال
ولأول مرة يصدقون أسطورة خوله بنت الأزور وجان دارك وجميلة بوحيرد ، ولأول مرة تتنبه المخابرات إلى خطورة هذه الصبية ، وتفكر في اعتقالها والحد من نشاطها ، لولا تراث المسئولين الكبار الذين ما زالوا يرون المرأة حرمة من الحرمات ، ولا يجوز المساس بها ، رغم التقارير التي تخبرهم عن قوات فدوى من النساء وقوات فدوى من الشباب ، وأن هذه المليشيات مدربة ومسلحة، وأنها على أهبة الاستعداد ، للدفاع عن نفسها والدفاع عن طبقة العمال ، الذين هم في الأصل من الفلاحين .
في صباح السابع عشر من أيلول من العام السبعين ، لم تستطع فدوى تجميع كتائبها ولا خلاياها من النساء ، ذلك أن سطوة الرجال على عائلاتهم ، كان أقوى من العقائد التي اعتنقنها ، وظلت ( الكلشينات) التي زودتهن بها مدسوسة بين طيات الفراش ، أو مدفونة في تراب الحوش ، أما الشباب الذين كانوا على استعداد لمواجهة جيش السلطة والنظام ،فقد كانوا يواجهون أسلحة غير التي واجهتها ميليشيات موسكو ولا كييف ، ببنادق الصيد ومعاول الزراعة ، ولم يجدوا أثرا لانشقاقات في صفوف الجيش ، ينسحبون وكأنهم نسوا ما تدربوا عليه ، استعدادا لحرب الشوارع ، وحرب العصابات ، ونسوا حقوق العمال وهم يتراجعون نحو الغرب ، نحو قرى بدوية لا يفهمون ما معنى الصراع الطبقي ، ويجدون العيب كل العيب ، في فتاة تقود شبابا وتحمل السلاح .
في غابات باجوز، كانت فدوى محبطة ، يتكئ ظهرها إلى شجرة ، تفكر في العوامل التي أنجحت ثورة أكتوبر في روسيا والعوامل التي أفشلت ثورة أيلول في الزرقاء ، لكنها أدركت لأول مرة _مع مرارة الهزيمة _ أن الزمان والمكان عاملان أساسيان ، وربما أدركت أيضا أن الفكرة الخلاقة لا تصلح للاستعمال مرتين . وأن تفكيرها لم يكن إبداعيا كما وصفوها أول الأمر.
الزرقاء 2/4/2007