(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
10
الزرقاء الجديدة
في الزرقاء الجديدة ، في الخامسة صباحا من كل يوم ، يستيقظ كعادته عدنان الخطيب وتستيقظ زوجته ، القاطنان في شارع 26 ، يستحم ويحلق ذقنه ويلبس بدله أنيقة ، ويخرج وزوجته إلى السيارة الرابضة أمام البوابة ، يدخلانها بسرعة كأنهما يحاذران أن يراهما أحد ، ينطلقان قبل أن تؤذن حرارة السيارة بالمسير ، يذهبان صوب عمان ، كأنهما يتفا ديان بالتبكير هذا أزمة السير ، يوصل زوجته إلى مدرستها ، ويمضي هو إلى منطقة الرابية.
يستفيق شارع 26 بعد ذلك الوقت بساعتين ، وتستطيع من علٍ أن ترى منه الزرقاء عن شمال ويمين ، تتحرك مئات السيارات التي تصطف على طوله البالغ كيلو متر أو يزيد ، تُفتح نوافذ الفيلات للشمس والشقق الفارهة ، وترى الخادمات تسقي ورد الحدائق الأمامية الصغيرة أو تغسل السيارات, لكن أحدا من ساكني هذا الشارع لا يدَّعي أنه يعرف عدنان الخطيب , أو رآه يوما ، وكثيرا ما ظنوا بيته غير مسكون .
في منطقة الرابية ، يجلس عدنان إلى طاولة على رصيف ال (كوفي شوب) ، يشرب فنجان قهوة ويدخن سيجارة ، وأحيانا يتناول فطورا خفيفا ، يحب أن يراه الزملاء في العمل جالسا في هذا المكان ، ليزدادوا قناعة أنه من سكان عمان الأصليين ، بل هو من أرستقراطيي عمان العريقين .
على باب مكتبه قطعة نحاسية لامعة ، مكتوب عليها حفرا عدنان الخطيب ، وعلى مقدمة مكتبه قطعة بلاستيكية صغيرة بيضاء ، مكتوب عليها بخط ذهبي عدنان السليبات ، إنها لعبته التي يستمتع بها ، مرة ينتمي لعشيرة السليبات المعروفة ، ومرة ينتمي إلى عائلة الخطيب ، التي هي فرع صغير من السليبات ، ذلك أن عائلات الخطيب منتشرة ، ولا يوجد بينها رابطة دم أو نسب ، فكل من كان إماما لمسجد كان يسمى خطيبا ، وكل من كان يعلم الأولاد ، كان يسمى خطيبا ، وتمييزا له أو تكريما ، كانت تسمى أسرته بعائلة الخطيب .
منذ أن ترفَّع للدرجة الخامسة ، بدأت أحلامه تنمو ، بل ترنو نحو منصب مدير ناحية أو متصرف أو قائم مقام ،أو رئيس بلدية ، وربما محافظ أو وزير، لذلك تراه يتصرف كمن يتدرب على منصب المستقبل ، فيبدي استعراضات كأنما هو مفطور على الأبهة والنفوذ، بل يبدي تقربا من أصحاب المناصب العليا ، ويتعامل معهم كزميل .
احتار زملاؤه من هذه الازدواجية الغريبة في الاسم ، فاحتمل سخريتهم ، لأنه لا يريد أن يفصح عن إستراتيجية حمل العصا من الوسط ، التي تتفق مع إستراتيجية الدولة المتقلبة في اختيار موظفي الفئة العليا ، فتارة تختارهم حسب العائلات وطورا حسب المناطق ، فالسليبات معروفة المكان ، أما الخطيب فهي في كل مكان . وما لا يعلمه زملاؤه أنه أسقط الزرقاء كمكان لولادته ,.وجعل عمان مكانا لسكنه .
من باب مكتبِهِ المُشْرَع يرى وزير الشؤون البلدية والقروية يدخل متجها نحو مكتب وزير الداخلية ، يهم بأن يلحقه لكي يسلم عليه، ويعرفه بنفسه ، لكن حركته لم تسعفه ، رجع إلى مكتبه فرأى مدير شؤون الموظفين يحمل مجموعة من الملفات ، ويتجه بها نحو مكتب الوزير ،لم يكترث لذلك وتابع عمله .
في الثالثة إلا ربعا ، يتناول الخلوي ويتصل بزوجته ، يخبرها بأنه قادم ، يتكلم بلكنة هجينة ، بين البدوية المحلية والمدنية الشامية ، ثم يهم بالمغادرة ، يصلح هندامه ويطوي الجريدة ويحملها مع ألأجندة التي تلازم المهمين من الرجال ،يجد مدير التخطيط ومدير شؤون الموظفين يتناقشان بانفعال ،يسمعهما عرضيا ، وأحدهما يقول :
_ في الزرقاء مشكلة كبيرة ، ألا يوجد بها شخصية ذات ثقل وتأثير ويمكن الاعتماد عليها!
رد عليه معترضا :
_ هذه نظرية خاطئة ، فهل يعقل أن مدينة تعدادها مليون من البشر ، لا تفرز شخصيات فاعلة ؟
لاحظ مدير التخطيط أن عدنان يتنصت بفضول ، فحدجه بنظرة لها معنى ، جعلته يمضي خجلا إلى الخارج.
تابع المديران نقاشهما ،قال مدير شؤون الموظفين :
_ لماذا يأتون برئيس للبلدية من غير مواطنيها ؟ وكأنهم لا يثقون بالانتخابات ! أو لا يثقون برجالها، ألا يمكنهم دعم بعض الشخصيات ؟ ليؤسسوا لتراث إداري !
قال مدير التخطيط :
_ يبدو أنهم بصدد المشروع هذا ، سيعينون زرقاويا , من الأكفاء الذين تنطبق عليهم الشروط ، وينجحون في المقابلة .
يغادر عدنان الوزارة ، ويركب سيارته إلى حيث زوجته ، ويصطحبها إلى مطعم ، يصرفان الوقت الكافي لكي يعودا متأخرين إلى الزرقاء ، فهو يحرص أن لا يتعرف إليه أحد ، لكي لا يطلب منه يوما مساعدة في وزارة الداخلية ، ولكي لا يرسل له والده في الغويرية من هو بحاجة للمساعدة من جيرانه وأصدقائه . ولذات السبب لا يزور والده هناك في الغويرية ، رغم أن الغويرية مسقط رأسه ، مقابل مدرسة زينب ، حينما كان والده عسكريا قبل أن يولد بخمس سنين ، إنه يعيش الحياة التي يريدها ، والأمل الذي يسعى إليه ، لم ينجب أولادا ، ولا يهتم لقلق أمه وحثها له .
اليوم ، لم ير وزير البلديات يدخل مكتب وزير الداخلية ، لكنه شاهد في قاعة الانتظار رجالا يعرف بعضهم ، يسلم عليهم ، ويسألهم إن كانوا يريدون المساعدة ، يشكرونه ويخبرونه أنهم ينتظرون مقابلة الوزيرين ، يسأل ببراءة عن موضوع المقابلة ،ويقال له ، لانتقاء رئيس للمجلس البلدي لمدينة الزرقاء .
جحظت عيناه استغرابا ودهشة وفجيعة ، مضى دون استئذان إلى المدير الإداري وصاح به:
_ لماذا لم تخبروني أن الزرقاء بحاجة إلى رئيس بلدية؟ ولماذا لم ترشحوني للمقابلة ؟
حافظ المدير الإداري على هدوئه وهو يقول :
_ من الشروط ؛ أن يكون المرشح من مواليد الزرقاء وساكنا بها ، هل أنت كذلك؟
_ نعم أنا ساكن في الزرقاء ، وفي الزرقاء الجديدة تحديدا.
_ في ملفك ؛ مكان الإقامة عمان ، ومكان الولادة فارغ .
_ لا .. أنا من مواليد الزرقاء وتحديدا في الغويرية ، وأنا من عشيرة السليبات ، وهي عشيرة زرقاوية .
_ أنت من عائلة الخطيب
سكت وقال بصوت يدل على انهيار :
_ والله إني من الزرقاء ومن مواليدها...
كررها كثيرا أمام المدير الإداري ، ومضى خارج المكتب وهو يردد:
_......أقسم أني من الزرقاء، أقسم أني من الزرقاء .
الزرقاء 4/4/2007