(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
11
شارع السعادة
لا أحد في الزرقاء يعرف أن العصابات تقتسم شوارعها وحاراتها ، وتمتلك مناطقها بوضع اليد، وبالقوة تديم سطوتها ، وتجبي منها الريع التي تسميه خاوة ويسميه الآخرون إتاوة .
وكما هو في عصابات المافيا تماما، يجندون لحسابهم أغبى الأذكياء ،وأذكى الأغبياء ، من الذين يخدمون أسيادهم بإخلاص ، ويطلقونهم بعد أن يدربوهم على القسوة وإخماد الضمير وإلغاء الرحمة والمشاعر الإنسانية .
شارع السعادة هو قلب الزرقاء بل عمودها الفقري ، أُسس أول ما أُسس ليكون رمز تقدمها ودليل رفاهتها ، يرفل بالمتنزهين عصرا والمتبضعين ، لكن أحدا لم يخطط له كي يكون حدودا تفصل بين منطقة (المخرز) ومنطقة (البومة ) ، فجانبه الجنوبي وحتى سكة الحديد قطاع يحكمه (المخرز) ، ومن رصيفه الشمالي حتى تخوم الغويرية منطقة نفوذ (للبومة).
أما كيف اقتسما البلد ، فيقول بعض العارفين من جهاز التعقب أن المخرز والبومة اجتمعا في الشوارع الخلفية وأحصوا ما في كل منطقة من بنوك ومكاتب صرافة ومحلات ذهب ، ومطاعم ودكاكين وبسطات وعربات متجولة وباعة على الرصيف ، وباعة الجرائد واليانصيب ، وأيضا الشحاذين والنشالين والمشردين على الأرصفة . فوجدوا أن ريع المنطقتين متساو، فأبرموا القسمة ،واتفقوا اتفاق سايكس بيكو .
ومن يعرف عن هذه العصابات شيئا يتحاشى إفشاء ذلك ، ربما لخوفه ، وربما لإخفاء تواطئه معهم أو خضوعه لابتزازهم ، أو أنهم بحاجة إلى دليل ملموس يقيمونه أمام الادعاء ، فالتجار على الجانبين جبناء كما هو رأس المال ، يقبلون خدمات يعرضونها عليهم ،أن يحموهم من اللصوص والنشالين والنصابين ،فيذعنون ، لأنهم يعلمون أن اللصوص والنشالين طوع يمينهم .
يعرفون المخرز كما يعرفون البومة، فالبومة يأتي بمرافقة أتباعه ، يسير على الجزيرة الوسطية ، نافخا صدره ، معلقا إبهامه في عروة حزامه ، لعله يصبح أكبر من حجمه ، يسير مستعرضا نفسه ، متخشبا ، كأنه يرى في ليونة الجسم ضعفا ، يمشي كما لو أنه يقلد المصارعين المحترفين وهم يدخلون الحلبة .
التجار يعرفونهما ، ويعرفون جماعة كل منهما ، حينما يأتون يوم( اللمَّة )، يعرفونهم بأصداغهم المجروحة ، من الأذن حتى طرف الفم ،وبالوشم المكثف على ظاهر اليد والصدر والأذرع ، يدسون في أيديهم المعلوم خفية , كما لو يدفعون تبرعا لجامع أو صدقات للفقراء ، ويقولون ماذا نفعل إذا لم تحمنا الشرطة؟
الشرطة والتجار يعرفون القوانين المخففة التي يُعاقب بها هؤلاء ، إذا ما ثبت عليهم جرم الابتزاز، لذلك لا يجدون في الوشاية ملاذا نهائيا ، ولا يريدون أن يعرّض أحد نفسه لأخطار عظيمة ، فهم يتداولون قصة ذاك الحلاق الذي رفض دفع المعلوم للمخرز ، فإذا باثنين يدخلان صالونه الفاخر بعد أيام، يتشاجران لأسباب سوقية تافهة , فيتراشقان بمكّات السجائر وزجاجات العطر والكولونيا والطرابيزات ، فتتحطم المرايا وألواح الزجاج ، ويذهب الزبائن إلى غير رجعة ، وتذهب بهم الشرطة إلى سجن بيرين ، تطعمهم وتؤويهم شهورا ، ثم يخرجون .
ظاهرة التشطيب ازدادت عما ألفه التجار الغارمون أيام (اللمَّة) ، اتسعت وصارت ملفتة في مجمعات السيارات ، وفي زحمة الحسبة وفي بعض الحارات، يرونها ظاهرة مرعبة مقززة ، تلك الندب الممتدة على طول الجرح ، التي تدل على عصابات مجرمة لا تتورع عن القتل والتنكيل ، تنبئ عن مستقبل مظلم في شوارع الزرقاء ،وفي الشارع الذي يتسمى بالسعادة ، فما الذي يدفع شخصا أن يضرب آخر بشفرة مزدوجة ؟ لا يلتئم لها جرحا ولو بمبضع التجميل...! ولماذا هذا المكان الواصل بين الفم وشحمة الأذن؟
مشكلة تستحق من الوجهاء والنواب الزرقاويين أن يتداولوها مع المحافظ ومدير الشرطة ، ليدرؤوا عنهم هذا البلاء الذي لم يعرفه أحد ،هذا الإيذاء للنفس والمشاعر العامة ، مدير الشرطة يؤكد للجميع أن المخافر لم تستقبل أية شكوى بهذا الموضوع ،ولم يحقق الضباط في أمر كهذا، ولو ثبت ذلك ، لأحيلت للقضاة بتهمة الشروع بالقتل .
إذن ما الأمر..! لا يمكن أن تفعلها مخلوقات هبطت من الفضاء، هال المحافظ ما سمع وقال كأنه عثر على الحل :
_ لا مشكلة لديك حينما تعلم أن لديك مشكلة.
وأشار على أجهزة التعقب والأمن الوقائي أن يعرفوا السبب ، وأعطاهم إذنا باعتقال كل من هو موسوم بجرح على وجهه، وكل من يظهر وشما على ساعديه ، وراحوا يحققون في هذا الذي يجري .
قال أحدهم وهو مرعوب أن يُفشى سر اعترافه :
_عرف المخرز أن أحدا الزعران يجمع الخاوة وهو غائب في السجن ، وحينما خرج،بحث عنه وتعارك معه ، وأصابه بالموسى في وجهه، فهرب، ولكنه بعد أيام جاءه معتذرا، فقد حذره آخرون من مغبة هذا العداء، فعفا عنه وضمه إلى شلته ، وأحبه كثيرا ،ورأى في جرحه هذا وساما ، ورأى أن يقلده لأفراد الشلة ، ربما كاعتذار غير مباشر له ، وأمرهم أن يشطب كلٌ بالموس أو الشفرة صدغه ، كان أمرا رهيبا ، ثقيلا على النفس ، وحينما لا يجرؤ أحد أن يؤذي نفسه بلا سبب وجيه ، كان المخرز يغافله ، أو يغافله أحد الأعوان ، ويضربه بالشفرة على صدغه الأيسر ، يصرخ ، ويكتم ألمه ، ويسعفه المخرز ، ويذهب إلى المستشفى ولا يمضي إلى الشرطة ، وبهذا الشطب ،يكون قد دفع ضريبة انتمائه للمخرز ، وحمل هوية الجماعة ، وعرفه التجار فلا يعطون غيره .
صمت المحقق برهة ثم سأله :
_ أكل من يحمل جرحا في الوجه من عصابة المخرز؟
_ فقط الذين يحملون جرحا على اليسار ، أما الذين يحملون جرحا على اليمين فهم من جماعة البومة ، لقد أجبر المخرز البومة أن يوسم جماعته ، لكي تتمايز الجماعتان ، ويعرف الذين يصطادون بالماء العكر.
_وعصابات الغويرية وحي معصوم ومجمع الباصات والسيرفيس ؟
_ لا أدري.
ودونما أحد يدري ، قبض المحافظ على المخرز والبومة ، نفاهما إلى بلاد بعيدة ، وفرض على أولئك الموشومين إقامة جبرية ، يثبتون كل يوم تواجدهم ،صباحا ومساءً في مراكز الأمن .
أما التجار الذين تنفسوا الصعداء، فيقولون ؛ لو كنا أكثر شجاعة ...! .
الزرقاء 9/4/2007