(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
13
الغويرية
لم يُرَ مخلد بني حسن محتدا غاضبا كما هو اليوم ، فقواه الهرمة وهزال جسمه لا يعينانه للبحث عن حماره الذي لم يجده اليوم في الحوش كما هو دأبه طوال عشر سنين أو أكثر .
مخلد بني حسن ، وهذا الاسم الذي يعرف به في الغويرية ، منذ أن هبطها قبل خمسين سنة، ويسميه آخرون بالحَمّار ، لأنه منذ عُرِف وأعماله مرتبطة بالحمير ، ومنذ عرف أيضا وهو يسكن بيته الذي مازال من التراب ، وما زال منتصبا رغم تآكله على الربوة الشمالية التي تطل على حي الغويرية ، لكن الناس لا يعرفون كم حمارا أفناه في عمله ، ولا ذاكرته الهرمة تعرف أيضا .
إنه مذهول لهذا الغياب المفاجئ للحمار ، حد الفجيعة المؤلمة ، فحماره المسكين ما عاد يقوى على شيء ، لذلك لا يستطيع أن يطلقه في الأزقة والشوارع ،تضربه الصبية وتنهشه الكلاب ، ويبحث عن طعام وشراب لا يجده في الطرقات، إنه يحتفظ به كرفيق أمضى معه العشر سنين الأخيرة ، يسمح له أن يتحرك في هذا الحوش ، يمرغ نفسه في التراب كما يشاء، يستمتع الاثنان بشيخوخة متزامنة .
لأول مرة يشعر بالوحدة والغربة ، فهاهو قد أصبح بلا حمار، بعد ما هو دون ولد ولا زوجة. فمخلد بني حسن ، اسم غريب يدل على أنه ليس من بني حسن ، ولو كان من بني حسن لانتسب إلى عشيرة من عشائر هذه القبيلة الكبيرة، أو إلى أحد فروعها أو عائلاتها .
حينما عرف الجيران ذلك، والقريبون من الحارة بما حدث ، طفقوا يبحثون معه ، ويقولون:
_ البوابة المتداعية لم تعد تمنع الحمار من الخروج .
ويقول آخر :
_ الحمير الداشرة تملآ الحارات ، ربما اشْتَمَّ رائحة أتانٍ فتبعها .
إنه نادم جدا ، فحماره قد خرج ، وخروجه هذا يعرضة لمفتشي البلدية ، الذين نشطوا أخيرا في جمع الحمير والكلاب الضالة ، كما شاء المحافظ وكما برر فعلته أمام الذين يملكون الحمير أو لا يستغنون عنها : ( إن مركبات السوزوكي صممت لتحل محل الحمير ، محركها محرك دراجة ،لكنه بقوة خمسة بغال ، وبذلك تحمل أكثر من دزّينة حمير ، وتستهلك أقل مما يستهلكه الحمار ، وتدخل الأزقة التي يدخلها الحمار ، علاوة على أن السزوكي لها ثلاثة عجلات ، فلا تنقلب ، وأيضا لا روث لها ولا نهيق كالحمار أوالبغل ) لكن مخلد قاطعه بقوله :
_ وكيف لعجوز مثلي أن أن يتعلم سوق السزوكي ؟
مأساة مخلد كمأساة الحمير تماما ، مشكلتهما مع العصر الذي يتغير دون استئذان، ودون علم مخلد وحماره العتيد، فكيف لرجل سبعيني أن يطور نفسه؟ يعمل حَمّاراً منذ خمسين سنة ، وإذا لم يطور مخلد نفسه ، فأنى للحمار أن يطور ذاته...! ، منذ خمسين سنة جاء مخلد إلى الزرقاء ، جاء ككل الطامحين الذين قدِموا يبحثون عن عمل ، وتحديدا تقديم خدمات يحتاجها الجنود في المعسكر ،فإذا بالحمار الذي جاء عليه راكبا ، صار وسيلته إلى لعمل ، إذ راح ينقل للوحدات العسكرية من القرى والمزارع الخضار والفواكه والحبوب ، إلى أن أصبح للجيش سيارات تنقل المؤن، وطرقات تصل القرى ، بعد ذاك استغنوا عنه ، فماذا يفعل بحمار ما زال قادرا على العمل ؟ فكر وفكر ، فرأى أن يحمل عليه بضائع يبيعها في قرى بني حسن البعيدة، فوضع على ظهره صندوقين ، ملأهما أولا أقمشة ومناديل وجوارب وكشكش وحطّات وعُقُل، ومرة أخرى إبرا ومرايا وبُكَل وخيطان وكبّاسات وأزرار ، ومرة ثالثة حلقوما وكعكبان وهريسة وقطينا وزبيبا وعنبا، ثم رأى أن يبيع الصابون المعطر و النابلسي والبرش ، والبودرة والحناء والكحل والعطر وزيت الشعر ، يبيع بالنقد حينا وبالمقايضة حيناً آخر ، وإن عز الأمر فبالدَّين ، لكن حينما فتح بعض القرويين دكاكين يبيعون بها ما يبيعه ، لم تعد تجارته رابحة .
ومرة ثالثة غيَّر عمله وعمل الحمار ، إذ صنع له حدادٌ عربةً بمقياس الحمار ، تتسع لبضعة صناديق من الخضار ينقلها من الحسبة إلى محل في سوق الغويرية ، يحمل عفش بيت متواضع ، ويوصل مونة العائلة الشهرية إلى البيت ، ويركب الأولاد عليها في نزهة عند كل عيد.
هذا العمل جعله يعرف كلَّ سكان الغويرية وجعلهم يعرفونه ، وصار ذاكرة الغويرية ، يعرف من نزل الغويرية ومن خرج منها ، ووجدته الشرطة مرجعا للتعرف على الأشخاص المطلوبين ، واعتبره المتصرف مختارا ، لأن الناس تعرفه ويكنّون له احتراما .
في حالة نادرة ينطلق أهل الغويرية للبحث عن حمار مخلد الذي يعرفونه ، ويعرفون أن البلدية قد حملته إلى الضليل ليعدم هناك ، لكنهم يخشون عليه المفاجأة ، يصر على أن يذهب إلى الضليل ، فيحمله أحدهم بسيارته إلى هناك _دون مقابل_ ، ويرافقه جيران ومعارف ، وهناك على حافة الصحراء ، كان صعيد جاف ورائحة نتنة تصدر عن جيف تتحلل ، فكانت دليلا لهم، اقتربوا منها ، فوجدوا مجزرةً لحمير الزرقاء ، وكان موظفو دائرة الصحة قد أحضروا للتو سبعة من الحمير ، صفّوها بجانب بعضها ، كانت رؤوسها على خط مستقيم ، وكان يكفيها طلقة واحدة من بندقية سمينوف ، تخترق رؤوسها، فيقضى عليها جميعا.
وصلوا ساحة الإعدام ،كانت جثث الحمير ملقاة ، عشرات وعشرات ،منها المنتفخ ومنها المتعفن ، و كان حمار مخلد في الرمق الأخير ، فالرصاصة لم تخترق دماغه، بل اخترقت فكَّه والأوردة التي في رقبته ، وقتلته على مهل ، فُجِع مخلد إذ رآه ممددا في حالة النزع هذه ,حينما حرك ذنبه ببطء ـ تحية له أو وداعا ـ ، وربما حرك قدمه أيضا، لكنه نظر في عيني مخلد نظرة ثم أغمضهما ، فصاح مخلد وقد ملأ صوته الأسى :
_ يا بلدية الزرقاء ، لماذا حكمتم على حماري بالإعدام؟ ألم يتفتق ذهنكم عن حل آخر غير القتل؟
الزرقاء 18/4/2007