(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
17ســكّة الحـديـــد
منذ عامين ،أي منذ أن تخرجت من كلية الإعلام ، وأنا أنزع لمنظومة من التحقيقات الصحفية ، تغطي قضايا الزرقاء كلها ، فالزرقاء مسقط رأسي ومدرج قدمي ، وملعب صباي ، ومقر عائلتي ، وفيها سكة الحديد المدهشة ، بقطارها الذي يمر عليها مساء كل خميس ،فينادينا بصفيره المبحوح ، وضجيجه الرهيب ،طبع بصماته على طفولتنا ، وغادرنا مع الطفولة التي غادرتنا .
ومنذ مدة وأنا أعد العدة لروبرتاجات كثيرة ، أحدها عن هذه القطارات الهرمة، وعن تاريخها وعمالها وخدماتها ، وأسترجع الأجواء الرومانسية في روايات تبعث شجا الفراق ولهفة اللقاء ، وروايات أجاثا كريستي البوليسية ، وأغاني عبد الوهاب ،وأدخلُ على الموقع الالكتروني للخط الحديدي الحجازي ، لعلي أحظى بخلفية معلوماتية ، تمكنني من أن أجعلها إطارا لأفكاري .
ولعلي شبه موقن أن ميلي لهذا الموضوع عائد إلى اسم عائلتي ، فأنا محمد شريف التريناتي، كنية منسوبة إلى الترين ، كما هي عائلة الساعاتي والقصيباتي والحكواتي ، ذلك أن جد جدي كان يعمل في قطارات استانبول ،أرسلوه مع امتداد سكة الحديد ، وحمل معه اسم التريناتي إلى الزرقاء، إنها قصة عائلة ، تنبهت إلى روايتها فيما تنبهت إليه .
تتسع الفكرة في رأسي ، وأشعر أن التحقيقات والمقابلات لا تشبع لي رغبة ، ولا تعبر لي عن دخيلة، فلا بد من أن تكون دراسة ، تتناول أثر سكة الحديد على مجتمع الزرقاء ، وبما أني أعرف أن لا أثر للسكة على مجتمع الزرقاء ، أصبحت الدراسة منصبة على عدم تأثير السكة على الناس والمجتمع .
تبلورت في ذهني استفهامات مركزة ، وتساؤلات عن عدم وجود حي باسم حي المحطة ؟ كما في عمان ، وكل المدن التي يخترقها القطار ، وكان أقرب لي أن أسأل جدي الذي شارف على التسعين ، وحينما أوصلته السؤال بعناء ، لم يكترث به ،كأنه لم يعجبه ، ومضى في نعاسه المستديم . ومضيت استجدي أجوبة لسؤال وجده الناس سفسطائيا عقيما ، لا معنى له أو فائدة ، بينما تمتم بعض الناس،ليبرروا سخافتي : إنه مبتدئ .
ولكي لا أكون مبتذلا رحت أطرح احتمالات معقولة أخرى موازية، هل كانت الزرقاء قرية أقل من أن تكون محطة تحميل وتنزيل ناجحة ؟ بدا السؤال منطقيا عند البعض ،لكن الذاكرة أظهرت أن مدنا صنعتها سكة الحديد ، كما الموانئ وطرق القوافل صنعت مدنها أيضا .
وتساءلت عن البضائع التي كانت تأتي بالقطارات من بيروت ودمشق وحيفا، أما كان تنزيلها أجدى في الزرقا ،وهذا خيرٌ من أن تذهب أولا إلى عمان ليعاد توزيعها على المدن ؟ التجار الذين سألتهم قالوا لم يكن في الزرقاء تجارٌ كبارٌ للجملة .
سألت أيضا عن كثافة السفر إلى دمشق وبيروت ، أما كانت تكفي لملء عربات معدودات ، تلتقط ركابها من الزرقاء والمفرق والرمثا ؟ وسألت عن الدهان المقشر والحديد الصدئ الذي لا يوحي باحترام للمؤسسة وجدية عملها، بل سألت أيضا عن أثر إلغاء سكة الحديد ، فضحكوا من بلاهتي كثيرا.
كان جدي مستلقيا ،حينما دخلت بيته ، حاولت أن لا أزعجه ، لكني أحسست بنظراته تلاحقني ، كأنما هو يستدعيني ، ملت إليه وحييته ، وجلست بقربه ، فبادرني :
_ هل أكملت موضوعك عن سكة الحديد؟
استغربت اهتمامه ، فانشرح صدري وقلت:
_لم يجبني أحد ، كأن أحداً لا يعلم أن السكة موجودة ...!
_ المتطفل لا يذكره أحد .
بدا لي أنه يكتنز فكرة ،وحرصت أن لا اكبح رغبة جدي للكلام ، فهي دليل عافية، وعلي أن أظهرها ،لكني سأحتمل روايته الألف عن والده الذي قضى دهسا بعجلات القطار، وكيف عاش يتيما إلى أن كبر وعين عامل تحويلة بدل أبيه ، وأن جده_ كيعقوب عليه السلام _كُفَّ بصرُهُ بكاءً على ولده ، وأن تعيين الحفيد مكان أبيه ما كان إلا لترسيخ أسم التريناتي بين الناس.
جذبني كأنه سيكلمني بسر ، أو كأني لا أسمع عن بعد ، وقال :
_ يوم مات أبي _عام أربعين_ ،كان قطار يحمل عتادا وقنابل وأسلحة من اللاذقية ، وصل وما زال قطار قد سبقه من حيفا ينزل حمولته ، كان تصادمهما مؤكدا لولا أن قام أبي بتحويل الخط في اللحظة الأخيرة ، وكان اصطدام قطارين سيفجر مئات الأطنان من القنابل، ويجلب كارثة على الزرقاء ،لكن القطار خرج عن السكة وغشي أبي الذي لم يحسن الهرب ، وقتله، وقتل انجليزيا كان يراقب التنزيل .
من أين لي أن أتأكد بأن المحطة وجدت أصلا لتزويد الانجليز بما تحتاجه معسكراتهم ، وأن والد جدي مات على هذا النحو ، وأن الانجليزي ُمنح وسام الشجاعة كما قال، بينما حوكم والد جدي بعد موته لأنه تصرف دون أمر .
هكذا وجدت نفسي بلا مراجع موثقة، وأن إدارة المحطة لا تملك شيئا يمكن أن أبني به بحثا يقرؤه الناس باحترام ، وأن الموقع الالكتروني الفخم غير معنيّ بما أريد ، ولا أحد معنيّ بتكريم الأبطال الحقيقيين ، وأدركت أن أهل الزرقاء نسوا مَعلَماً ،اختبأ خلف شيك المعسكر ، ولا يذكر السكة اليوم إلا الفقراء الذين يشترون الملابس القديمة من دكاكينها.
قال أحد الذين قرأ مقالي السابق والموسوم ب( الزرقاوي اللامنتمي )
_المؤسسات أيضا مريضة بعدم الانتماء .
الزرقاء 3/5/2007