(زرقاء بلا ذنوب)
كتاب منشور بقلم : سعاده عوده ابو عراق
19
السخنة
في هذه الأيام يتكلم الزرقاويون عن قصة أشبه بقصص الأفلام الهندية الدرامية ، أو الأفلام الكاريبية المدبلجة ، قصة موضوعها اختلاط الأنساب ، وخاصة عند قوم يرون في الأنساب مكانة عظيمة ، فالأشخاص وحياتهم ومكانتهم ومستقبلهم ،لا يستقيم إلا بالنسب العائلي المؤصل.
قليل هم الذين يذكرون تفاصيل الحادثة التي وقعت قبل سبعة عشر عاما ، ومن يذكرها بصعوبة ، يتذكر الأسى الذي انتاب أهل السخنة من عرب وتركمان وشيشان ، حينما علموا أن صفية التركمانية وفريال الشيشانية قد ماتتا بحادث في طريق العودة من مستشفى الزرقاء ، بعد أن أنجبت كل منهما صبيا ، حادثة مروعة هزت صخور المقالع الحجرية ، ولانت حتى البكاء .
في ذالك الوقت ترك الناس أحاديثهم عن غزو العراق لدولة الكويت ، وحشود أمريكا في الخليج وانقسام العرب بين مشارك في الحرب ومعارض لها ، وراحوا يتحدثون عن مصير مبهم لطفلين وُجدا نائمين في جوف سيارة محطمة، وأمَّاهما والسائق ميتون ، والداية المرافقة مسجاة في غرفة العناية الحثيثة ، عناية إلهية قدرت لطفلين النجاة ، أحدهما اسمه منير والآخر اسمه جمال ، لكن اشتعال الحرب أنست الزرقاويين وأهل السخنة تحقيق الشرطة في الحادث والأسباب العائدة إلى سوء الطريق ، والتجاوز الخاطئ ، والقلابات المحملة بالحصمة ، ونعاس السائق الذي سرى لإحضارهما قبل طلوع الشمس ، و لم يسأل أحد كيف عرفت كل عائلة ابنها .
في هذه الأيام وبعد سبعة عشر عاما ، يتحدث الزرقاويون وسكان السخنة عربا وتركمان وشيشان عن قصة جديدة ، عن اختلاط في الأنساب بين العائلة الشيشانية والعائلة التركمانية ، و يخمنون كيف حدث ذلك ، فربما اهتم المنقذون بالطفلين الأحياء ، إذ حملوهما كيفما اتفق إلى مستشفى الزرقاء ، أدخلوهما حضّانة الخداج ، والداية التي أفاقت بعد أيام ثلاثة ، لم تكن على وعي لتفرق بين ابن الشيشانية وابن التركمانية ، ربما أدركت وهي في موقفها الحرج هذا مسؤوليتها ، فأشارت بحزم إلى أن هذا هو ابن الشيشانية وذاك ابن التركمانية , لتغلق باب التخمين.
وهكذا ارتضى كل فريق _دون سؤال_ أحد الطفلين ابنا ، وما فكر الأهل بمثل هذا الموضوع أو شكوا بالنسب يوما ، لولا الداية التي هرمت ، وأرادت أن تصحح خطأ اعتراها في فترة ضعف ، وتريد أن تلقى وجه ربها وهي راضية ، حينما لاحظت الفتى جمال وهو يخطر في مخيم السخنة ويناديها (بأمي ) ، احتضنته وتفرست شعره السبط الأشقر الذي يختلف عن شعر التركمان المائل الى البني لتزاوجهم مع العرب ، وتمييزها بين لون الشيشان الأشقر والتركمان الأبيض ، والأعين الزرقاء الصافية التي يقل وجودها بين العرب والتركمان ، كل هذه الصفات مجتمعة تجعل من المؤكد أن الفتى جمال شيشانيٌ وليس تركمانيا .
هكذا قالت الحاجة ميمونة الداية ، ولم تر الفتى منير ليكون الحُكْمُ مؤكدا ، وانتشر الخبر ، وكأن مخيم السخنة على موعد معه ، وصاروا أكثر حرصا على ملاقاته والتأكد من صفاته الشيشانية ، لكن حمال ، أو جمال عبد الناصر كما يتحبب إليه زملاؤه ومعلموه ، غاضب من هذه الملاحقة التي لا يرى لها معنى ، والتي جعلته غريبا أو لقيطا عند والده وعند عائلته ، وخاصة حينما طالب أحدهم أن يجرى له فحص المورثات الجينية كتأكيد علمي على الحكم الظاهري .
لم تكن محنة جمال ، في أنه سيغير أسرته التي تربى بينها فقط ، ولا في تغيير اسمه والانتماء إلى أسرة أخرى ومجتمع آخر ، بل حرية الاختيار التي سوف يفقدها ، كان حزينا جدا وهو يرى والده يذهب إلى الشيخ عبد الباقي زعيم الشيشان في الزرقاء ، يسأل عن عائلة منير، ويحاول هذا الشيخ أن يبحث ،فيعلم أن منير قد هاجر طفلا رضيعا مع أهله إلى بلاد الشيشان ، وأن والده وأعمامه قد عادوا ، وسكنوا عمان ، بعد أن أقلعوا عن حلم ورثوه عن أجدادهم بالعودة إلى موطنهم الأصلي في بلاد الشيشان .
في الزرقاء فرحت العائلة الشيشانية بفتى سوف يعوضهم عن منير الذي أبى أن يعود ، والتحق بالمقاومة الشيشانية ،ولا يعلمون عنه شيئا ، تقابلت العائلتان ، ولم يكونوا بحاجة إلى تحاليل مخبرية للدم ليعلموا أنه شيشانيٌ ، فسحنته لا تخفى على أحد ، حضنوه ، وتكلموا معه باللغة الشيشانية كانهم يدشنون عودته إليهم ، فانتفض كمن يحتج على شتيمة .
_ تكلموا بالعربية ، أنا عربي.
من يعرف جمال لا يتوقع منه غير هذا الجواب ، فاسم عبد الناصر شحنه بالكثير من المواقف والعقائد والاتجاهات ، فهو قومي متعصب للعرب والتاريخ العربي ، كما يقول معلموه في المدرسة، عاشق لفلسطين كأنما هي قدره ، وأنه خلق لها ، ليس هذا فقط ، بل يعرف تاريخ العرب التركمان في مرج بن عامر، يعرف عائلات التركمان وزعماءها ، ونضالهم ضد الاستعمار البريطاني والاغتصاب الصهيوني ، يعرف القرى التي مسحها الصهاينة ، ويعرف أسماء المستعمرات التي أنشئت فوق أراضيها، إنه حالة نادرة في جيل لا يحمل أية مبادئ أو مفاهيم .
قال الأب الشيشاني:
ولكنها لغتنا التي تعلمناها من آبائنا.
- والتركمان كانت لهم لغة أيضا ، لكنهم تعربوا ، أصبحوا عرب التركمان.
بدا الفتى أكبر من سنه فقال الأب التركماني:
_ وأين منير ؟ كيف ظل وحيدا هناك؟
_ انضم إلى المقاتلين الشيشان .
إذن فالمشكلة أكبر من أن تبحث في جلسة عائلية ، وأعقد مما كان يظن ، الأسرتان حائرتان فيما تفعلان ،إنها حالة نادرة لا يقوى على فكها وجهاء العمل الاجتماعي ، إذ لا خلاف بين العائلتين كي يُوَسطوا أحدا ،ذلك أن الموقف ليس مجرد تبادل أشياء ، بل شابين ، لكل منهما تاريخه وعواطفه وأفكاره وتوجهاته ، وليسا طفلين يمكن تشكيلهما من جديد ، فهل يكفي أن يغيّر جمال اسم أبيه وجده ، وأسم أمه كي يغدو شيشانيا ؟ ويكفي لمنير المستغرق في النضال الشيشاني أن يقال له أنت تركماني كي يتراجع عن قضية ثمنها روحه وحياته ومستقبله.
كان الوجوم مسيطرا على العائلتين ، لعلهما أدركا أن الحل المثالي أن يصبحا عائلة واحدة منحوتة من الشيشان والتركمان ، لكن جمال الذي يعي هذه الحيرة البادية على الوجوه ، قال كأنه يريد أن يحول تفكيرهم المحكوم بالعشائرية :
_ الإنسان ليس سلالات وعشائر...،الإنسان قضية .
الزرقاء16/5/2007