طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة الثانية :
حيّز لجدتي
حينما تسكت الجدة ، يعني أن أمرا أزعجها ، تتقوقع بعيدا في صمت ، والصمت لغتها البليغة التي تعلمناها ، وعلمنا والدي كيف نفك رموزها .
اكتشفنا صمتها -كما يقول والدي -حينما أدخلنا المذياع لأول مرة ، انتحت صامتة في ركن قصي ، بعد أن اكتشفت انه يتكلم ويغني ويقص حكايات ممتعة ، وقالت لأحد أعمامي الصغار وهو يستجديها كلاما وحنانا وحكايات :
- خلّي الراديو يحكي معك .
و ها هي الآن متقوقعة في أقصى الحوش ، هذا الحوش الذي كان واسعا فملأناه غرفة بجانب غرفة ، وخلعنا شجرة اللوز التي زرعتها بذرة .
قال جدي لها وهي ترقب بحزن ذاك الحطاب الماهر الذي يجتثها:
- يـمّه ، كثر الأولاد ،لابد من غرف أخرى .
لم تكن حينها عاجزة عن التعبير ، لكنها فهمت منطق ولدها، وسكتت وفهم جدي صمتها .
عبثا نحاول اقتلاعها من مساحة الشمس التي تتدفأ فيها، تمد ساقيها الضعيفتين على الفرو الناعم الصغير ، تسند ظهرها إلى جدار الطوب، هذا الجدار الذي ابتناه جدي مكان (السنسلة ) العريضة ، التي تشبه كومة الحجارة .
قالوا لها يحاولون إشراكها بالمشروع :
-سنبني جدارا سماكاته شبر ، ونصبح اكثر حرية داخل بيتنا .
وبالرغم من أن هذا المنطق عملي ، إلا أنها شوهدت كثيرا وهي تعتلي شيئا وتقول لجارتها :
-صباح الخير .
جدتي ، وجدة ابي _ ولا ادهش لهذه المفارقة _ تجاوزت التسعين نوقرها بالحجة ، نتوسل الرضا من عينيها الكليلتين ، فقد كفت منذ زمن عن الكلام بعدما أدخلنا التلفزيون إلى غرفة الجلوس ، فما عادت تقص علينا الحكايات ، لأن هذا الشيء المحبب ، سحرنا نحن الصغار ، فكنت أُغادر حجرها ،لأتابع عن قرب ما يظهر على الشاشة وكان ابي ينهرني خوفا على نظري ، فأتأخر قليلا ، اتكئ على فخذها ، فتبدأ العبث بأذني ، وبشعري المرسل على رقبتي.
الجدّة تبحر مع وحدتها ، وأبي يغمز أمي كيّ تذهب إليها، لعلها تغيّر مكانها ، فالسيارة التي اشتراها ابي مؤخرا ، سوف نحشرها في هذا الفضاء المتبقي من الحوش ، وسوف يغدو صعبا حصرها في هذا الحيز الضيق الذي بقي لها .
أمي التي تناديها بجدتي أيضا ، تعرف كيف تقترب منها ، وكيف تدخل إلى مغاليق أفكارها
-ستّي الحجة ، الشمس حامية .
يبقى وجهها متغضنا لم يتغير ، وجفونها لم ترتفع
-ستي الحجة ، لو تجلسين على الكنبة ، فإنه افضل لرجليك
تهرب من الإجابة بالتظاهر بالصمم .
-ستي الحجة ، قربت صلاة العصر ، ستكونين وأنت على الكنبة باتجاه القبلة .
تضع رجلها الممدودة على أخرى ، وتهش ذبابة تخيلتها .
-ستي الحجة ، نريد رش الماء . كي نلطّف الجوّ .
مدت ذراعيها كمن يتمطى ، وأمي تفتش عن أعذار أُخرى ، فالوقت لايسعفها كثيرا ، فأخي يطلق نفير السيارة إيذانا بالمجيء .
سمعت الجدة الصوت بوضوح وصاحت :
- إلى أين اذهب ...!!؟؟