طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة الرابعة :
مساحة أخرى للذاكرة
كرجل عقلاني ، يخاطبونه خطابا عقلانيا ، يزرعون به اليقين ، فلا خوف إطلاقا من هذه العملية ، لا تخدير ولا أدوية ولا يحزنون ، كل ما في الأمر هو الجلوس على كرسي ، ومن ثمَ ضبط الجمجمة ، والباقي على الآلات المعقدة .
يتوثب الشك بلا مقدمات ، فما الجدوى من هذه المغامرة ؟ اهو التوق إلى مزيد من المعرفة ؟ فالطفرة المعلوماتية الراهنة تحتاج إلى مساحات أخرى للذاكرة ، وهذا يقتضي توسيعا للذاكرة ,
-لن تشعر بشيء بتاتا ، لا صداع ولا دوخة ولا إغماء ، لن تشعر باكتئاب ولا حزن ، ولن ينتابك خلل نفسي ؛ لا ذهان ولا فصام ولا عصاب ،ولن يلم بك مرض عضوي فالأشعة التي تصوب إلى دماغك لا علاقة لها بالسرطان ، فهي ليست أشعة نووية أو ليزر ، إنها أشعة عضوية .
يبددون المخاوف باساليب مختلفة ، فالمكابرة دائما تخفي تحتها بذور خوف خامدة ، فتمنع الاسترخاء إلى اليقين ، او الخلود اليه . فماذا لو لم تكن هذه الأجهزة سليمة دقيقة ؟ وماذا لو أصابها عطل؟ يؤكد الجميع استحالة ذلك ، فالأجهزة مترابطة عضويا ، كأجهزة الجسم تماما ، يعضض بعضها بعضا ، فلا وصلات ولا أسلاك ولا كهرباء ساكنة او متحركة ، فتكنلوجيا الألكترونات عفا عليها الزمن ، ولم تعد إلا في البلاد المتخلفة .
يسال رئيس الأطباء الذي لا يلبس الأخضر ، ولا يكمُّ انفه وفمه :
-هل اخلع حذائي ، ربطة عنقي ...؟
-لا ، لست بحاجة إلى شيء من هذا ، لن تدوم العملية اكثر من عشر دقائق ، لن يرتفع ضغط الدم ، ولن يتغير معدل النبض ، ولكن قد تشعر أن دهرا يفصلك عن لحظتك هذه ، وأنك ولدت من جديد .
تفصيلات جديدة لم يسأل عنها سابقا ، ولا أحد اخبره بها ، وهذا مبعث لأسئلة أخرى ، فما الذي سيحدث إذن ..!!؟
يحاول الطبيب تقريب الفكرة ، بما هو معروف لديه في مجال الكمبيوتر ، بما يفعله فني الصيانة عندما يريد استبدال ( الهارد دسك)، انه يفرغ ما فيه أولا على قرص مرن ، وبعدما يفرغ من عمله، يعيد مرة أخرى ما استنسخه . وسيكون الأمر على هذا النحو، إذ تؤخذ ما في الذاكرة من معلومات ومعارف ، ريثما يقوم جهاز آخر بتوسيع مساحة الذاكرة في قشرة الدماغ ، وترميم ما تلف من خلايا ، كل ذلك في دقائق معدودة ، ثم يعاد كل شيء ، ولن يسلب منك قدر أنملة
لا بأس إذن ، ستتسع الذاكرة بما يليق بهذا العصر القادم من تعقيد.
فكرة عبثية أخرى تطفو على مقدمة التفكير
-هل لي أن احصل على نسخة ملموسة لذاكرتي ؟
أكد له رئيس الأطباء ذلك بكل ثقة ، وترك لخياله كي يتصور الأمر ، ولكي يوقفه عن أسئلة أخرى بلهاء ، ينثرها القلق المستوطن عشوائيا ، أردف بإسهاب .
-بعد العملية ستدهش حينما ترى سهوب الذاكرة الجديدة الممتدة، ستشعر بالخواء ، كأنك ما عرفت شيئا ، ستصبح لك ذاكرة طفل ، تحتاج إلى عمر جديد لكي تملأها ، أو تملأ جانبا منها، قد تجد نفسك ساذجا غبيا ، وهذه مشاعر نسبية .
جلس على الكرسي وهو يتخيل هذه القفزة الكبيرة التي سوف تنقله إلى عالم المستقبل بجدارة .
قال وهو يعالج فكرة غير مكتملة
وقناعاتي ..؟
- هي جزء من ذاكرتك ، لكنه الجزء الذي تقدر على نبذه أو استحضاره .
- وهل ستتغير إذن ..؟؟
قال بحدة واضحة
لاحظ الأطباء السؤال الاستنكاري فقال رئيسهم :
- لا أدري ..! فقناعاتك تتغير مع اتساع معلوماتك وضيقها
34 / 5 / 2000