طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة السابعة :
إنتر نت
نحاول أن نجعل من جلستنا قيّمة ، تمور بالأفكار ، تصطبغ بالأهمية والتركيز ، ننتقي المواضيع الكبرى ، نثرثر بما يليق بنا من قضايا هامة ، سياسية ، اقتصادية ، ثقافية وتراث ، نناقش المفاهيم، فنصنّف ونحلل ونستنتج ونحكم ، ونحاول أن نبدي رصانة واتزانا ، فاصغرنا قارب الخمسين .
قال أحدنا كأنه غير عابئ بفكرته :
-الانتر نت ، ألم تجد المجامع اللغوية ترجمة له ؟
فكرة طائشة , استحوذت على اهتمامنا ، حفزتنا للكلام ، ربما ستريحنا من الاسترسال الصعب عبر القضايا المعقدة ، تتوقف لالتقاط الأنفاس .
-وهل كانت ترجمتنا للكمبيوتر بالحاسوب صحيحة ؟
قال أحدنا ، وكأنه أعطى إطارا للنقاش ، وبدأنا نتحفز لمحاسبة المجامع اللغوية على فهمها المتواضع لعمل الكمبيوتر ، حينما أسمته بالحاسوب .
قال أصغرنا سنا :
- لو كنا اخترعناه ، لأعطيناه اسما جديرا به .
لم يعجبنا هذا الحسم الفوري للنقاش ، فقال متحمس آخر :
- لا باس ، فقد غدا اسما اصطلاحيا .
إذن يمكننا أن نبحث في الاشتقاقات اللغوية ، وهذا أمر ممتع، أردف صاحب الفكرة ، ليحاصر استطراداتنا المتوقعة :
-إذن ما الترجمة الحرفية للانتر نت ؟ اهي شبكة داخلية ام خارجية ؟
-نحن لا نترجم ، بل نصطلح .
-هكذا قال رجل يحب الجدل الفلسفي، لعله يوجد عمقا للحوار .
فرد شخص كان صامتا اكثر الوقت :
- من منا استخدم الانتر نت ، حتى يعطي له اسما وظيفيا ؟
نظرنا لبعضنا ، فلماذا الأسئلة المحرجة ، وجميعنا جاوز الخمسين ، واكتمل وعيه الذهني قبل شيوع هذه المخترعات ، فقال أكبرنا سنا ومركزا وظيفيا :
-كان دخوله سريعا مفاجئا ، وعلينا أن ندرس فوائده وأضراره ، ثم نقرر .
من قال أنا أوصياء على المستقبل ؟ فمتى سيتمكن هذا العجوز من الدراسة والتقييم ثم الحكم ؟
قال أصغرنا بما يشبه السخرية :
-وعلينا أن نبحث أيضا إن كان حلالا أم حراما
ابتسمنا لهذه السخرية ، لأننا رحنا نتذكر الجدل الذي دار يوما حول البرنيطة والطربوش ، ونسترجع الفتاوى التي ما زالت حية عن السينما والراديو والتلفزيون ، وكادت أن تفجر أزمة لان أحدنا شعر بالغمز المبطن لفئة تفهم القضايا على هذا النحو ، لولا قول أحدهم :
-أولادنا يمضون وقتا كبيرا في مقاهي الانتر نت
هذه قضية صالحة للحوار .
-ومن منا يذهب إلى هذه المقاهي ؟
-لأن روادها من الصغار .
-وهل هي مخصصة للصغار فقط ؟
شعرنا جميعا أننا نتكلم بإسفاف ، فمن منا يملك أفكارا محددة حول الموضوع ، فنحن ممتلئون بالمفاهيم التي درسناها، وتعودنا عليها ، وصنعنا بها شخصياتنا ، وبها مارسنا أعمالنا بجدارة ونجاح .
قال أكبرنا سنا :
- لا أظن حصيلتنا الحضارية بحاجة إلى الانتر نت ، ستكون الأجيال القادمة اصدق حكما .
قالها بوقار وكأنه يهدف إلى إنهاء هذا النقاش اللا مجدي
تحفز شخص ليجهز على هذه الثرثرة ، إلا أن الرجل الذي يتسم بالصمت المهذب قال:
-وما أثرنا عليهم ، ألا يؤثر اعوجاج الجذع على استقامة الأغصان .
أعجبنا هذا التشبيه ، لكن صاحبنا الصموت تابع فكرته :
-لماذا لا نجعل دوائرنا ومؤسساتنا تنفتح على بعضها بهذا الذي يسمى الانتر نت ؟ ونستغني عن أطنان الورق الذي نتكاتب به..؟
إذن فصاحبنا يعرف شيئا عن الأنتر نت، فقال رجل ليبدو انه محيط بالموضوع :
-وهل فعل غيرنا مثل هذا الفعل ؟
تنفس صاحبنا وبدا وكأنه يفتش عن جواب :
-إن كنت يا صديقي لا تعرف انه اخترع لهذه الغاية ، فهذا شأنك ، أما أن تدعونا كي لا نعمل عملا إلا إذا سبقنا إليه غيرنا، فهذه مصيبة كبرى .