طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة الثامنة :
افتـــراق
يملأني شعور الغربة ، والحنين الدائم إلى مفردات الوطن ، وأنا أهمُّ بمغادرة مطار – لست اذكره الآن - ، متخم من هذه الوجوه السكسونية الشقراء ، والأخرى الزنجية الفاحمة ، لا ادري أي جانب من الوجدان يشعرني بعطشه إلى وجه بين بيـن ، ربما يؤنسني وجه إيطالي من الجنوب ، أو هندي أتمنى أن يكون اقل سُمرة .
احمل حقيبتي وأسير على مهل ، الاصطفاف منظم والإجراءات سريعة ، أتلهى بعد الناس والتفرس في وجوههم ، يا الهي…!!! هذه فتاة تلبس الحجاب !! تأتي الهوينى ! تستقر بجانبي وكما كل النساء في عمان ، تقف بلا صخب ، تحيّد أُنوثتها ، وتطفئ كل اشتعال النظرات عندها ، من أين سقطت هذه الواحة ؟ وهذا الأُنس الذي أيقظ الروح ، لابد أن تكون عربية ، تحتفظ بتراثها الذي رسمت به شخصيتها ، إذن لا بأس أن أحادثها ، أتواصل معها هذه البقية من اللحظات .
-مرحبــا …
نظرت إليّ بعينين باسمتين ، لكني رأيت فيهما استغرابا غير مريح فأردفتُ:
-من أي بلد أنتِ؟
اتسعت غيمة الاستغراب في عينيها، وتحولت رويدا رويدا إلى تجاهل ينم عن سوء فهم ، فلا يمكن لهامش الحرية عندنا ، أن لا يتسع لهذا التواصل البريء ، وهذا التعاطف القومي والوطني ، فلربما هي من مواليد أمريكا ، جفف الزمن بعض الكلمات التي توارثتها عن أبويها ، وأسلمتها إلى عزلة حضارية ، إذن فلأتكلم بالإنجليزية :
-هل أنت عربية ؟
برقت عيناها ، وشعرت باستجابتها ، التي دفقت عبر ابتسامتها المقتضبة ، إذن هي لا تعرف العربية .
- لا…
قالتها بقوة وصراحة ، وجعلتني اكثر جرأة ، لكي أُتابع محادثة لن تمتد لأكثر من دقائق ، نجتاز بعدها هذا الحاجز ، ويمضي كلٌ إلى حيث يشاء .
-إذن من أي بلد أنت ؟
صار للأسئلة معناها ،وتفاعلها داخل النفس ، أصبحنا نقترب اكثر ، - هكذا اشعر – واشعر أن التعطش صار اشدّ إلى مزيد من هذا الحوار العابر .
- من إيران …
إذن ، فظني لم يبتعد كثيرا ، وكلنا الآن شرق ، عطر أتنسمه من هناك ، أنسى به وحدتي في هذه اللحظات العابرة ، ولن أبدده بصمت ابله .
-من أي بلد في إيران ؟
هذا ما تبادر إلى ذهني، نطقتها وكأني اعرف المدن الإيرانية، كم مدينة اعرف وكم منطقة ؟ طهـران ...! ، شيراز …!، قم …؟ مدن تمر بذاكرتي مجردة من أية صورة تميزها ، ولا معلومات تلوّنها ، وتجعل لها وجها واضحا ، فما هذا السؤال المفرغ الذي افلت مني ؟
- من قـرّم شـهر …
وأين تكون هذه قـرّم شهر ؟ لعلي سمعت بها في الأخبار ، قرأت عنها في الكتب ، لماذا اعرف عن المدن الأمريكية اكثر مما اعرفه عن مدن إيران ، وتركيا وباكستان ؟ ها أنا أخاطبها لا بالعربية ولا الفارسية ، نتفاهم بلغة وسيطة ، فأي حوار يمكن أن يمتد بيننا ؟
-إذن ، نحن ننبت على أرومة تاريخية وحضارية واحدة .
لا ادري إن كنت فد ترجمت سؤالي جيدا ، وعبأته بالوجدان الكافي ، ولا اعرف كم حفز هذا السؤال في أعماقها ، وكم فهمت مقصدي ، وما ارمي إليه .
كنت أتوقع أن تسألني عن موطني ، إلا أنها هزت الرأس بالرضاء السطحي المجامل .
نتقدم من الموظف الذي ينظر في بطاقتينا، ويدقق في وجوهنا لعلنا أقرباء ، يعيد النظر ويطالع شاشة الكمبيوتر ، لعل ألفاظ أسمائنا المتشابهة تثير شيئا في ذاكرته ، فيعيد التفرس في الوجوه ، يرانا بمنظار واحد ، يوحد بيننا ، كما وحدتنا الأسماء والسمات .
وافترقنا ، ولم ننطق بكلمة وداع .