طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة التاسعة :
حقوق الإلهام
تغريها الجلسة المفعمة بالتأمل ، والإنصات الحالم إلى الذات ، واكتشاف الطاقات ، انه ليس ابتذالا للجسد ، بل تحفيزا لروح هذا الفنان ، وإشعالا لملكات الإبداع عنده .
منذ ساعة وهي تسترخي في جلسة تبدو للآخرين مُجهِدة، تسبل شعرها المرسل ستارة شفافة على عنقها النضير ، شامخة كأنها تأخذ شهيقا طويلا ، ترخي يدها اليسرى ، فتبدو الكتف اليمنى مشرئبة ، والأخرى دانية ، تلقي ساعدا على ساعد كأنها تضفرهما ، تريحهما على ساقين متراكبتين ، ويبدو الصدر المنتصب معادلا لإنهاك الظهر المتعب قليلا .
جلسة تقليدية لفتيات الموديل ، ماذا عساه أن يستوحي بعدُ من نظراتها ، وسنا حضورها ، تُسائل نفسها بغرور ، لكنه منذ ساعة لم يستطلعها ، ولا تأملها كما ينبغي ، هل نضب عطاؤها، أم تراه اكتفى؟
تختلس نظرة من خلف الرسام الذي يتحرك بلا انتظام تظهر لها الصورة كائنا ملائكيا جديدا ، تشبهها بالسمات العامة ، لكن.. كيف اختلق هذا الوجه المتورّد ؟ وسكب هذه الحيوية الطازجة في القسمات، حتى ليقسم من ينظر إلى الصورة أنها تكلمه ، بل يذهب مؤكدا انه يسمعها ، ويشم رائحة عطرها .
تنظر إلى الصورة ، ولا تصيبها الغيرة ، يعجبها أن ترى نفسها بعيني فنان ، أن تنـتبه إلى التفصيلات التي أضافها والجوانب التي اكتشفها ، فجميل أن يكتشفك الآخرون ، يعثرون على دفائنك المخبأة ، ويشعرونك بالثراء .
تنظر إلى الصورة وتغتبط اغتباطا متميزا ، فهي تشارك الرسام عمله ، تسهم بهذا الإبداع الرائع ، فعملها ليس استعراضا فارغا ، ولا جلسة يوغا ، تكابد ، تتجلد في هذه الجلسة الرتيبة ، تحاول أن لا تشتت تفكيرها ، هكذا قال لها يوما لكي لا تفسد الانفعال ، كلاهما يحرص على إتمام عمل مشترك ، يمتد إلى لواعج النفس ، ويصبح تواصلا حقيقيا ، فلماذا يظهر حبا وحنانا بالقدر الذي يجعل منها ملهمته ..؟ ولماذا لم يتحول هذا الحب إلى زواج ..؟
شخص ما ، يقتحم المرسم فجأة ، بلا ضجيج كأنه متعود على المكان ، يقوده بصره بخط مستقيم نحو اللوحة ، كصياد يقظ متربص ، فما شعرت به ولا شعر بها ، استقر وهتف إعجابا:
-اللـ ـ ـ ـ ـ ـه .. الله ، الله ، الله ..
تنبه إليه الرسام ، وحياه ببرود ، لعله يستبقي على جو الأنفعال المسيطر ، لاحظ الرجل ذلك ، أدرك أهميه الهدوء الذي يشيع، وقف يتأمل الصورة ، كأنه يصلي بخشوع أو يبحر في دعاء .
تكتم غيظا بدا يساورها ، فما هذا التجاهل الوقح لوجودها..؟ أليس لهذا المهووس إحساس بالأنثى ، يحدس بها دون أن يراها ..؟ أمن اللائق أن تعلن عن وجودها بطريقة ما ..؟ ها هي تغير من جلستها ، تعيد توضيع شعرها على انحدار عاتقها ، يتنبه الرجل ، ينظر إليها كإحدى الموجودات ، وسرعان ما يعيد التركيز على الصورة ، ويقول كأنه يسبّح :
-وهل هناك جمال فوق هذا الجمال ..؟
ظل الفنان منهمكا بتعميق الظل عند ملتقى الشفتين ، لعل تعبيرا يتفجر في الابتسامة ، وهي تشعر بمزيد من التهميش ، بدا لها ان تنسحب ، وقد غدت باهتة بجانب هذا العمل الإبداعي ، تذكرت ( الجيوكندة ) لكي لا يسلمها الإحباط إلى السقوط ، تسللت بهدوء ، وهي تتوقع ان تترك فراغا ، أو تُحدث خللا .
صاح الرجل المبهور :
-من ألهمكَ كلَّ هذا ..؟
مسح الرسام فرشاته ، ونظر نحو مكانها ، رآها تغادر الباب بلا تردد، فتابعها الرجل بنظراته ، فلعله نادم على تجاهلها ، ربما لانشغاله بالعمل الإبداعي اكثر من مصدر الإبداع .
فتمتم كأنه يعاتب نفسه أو يأسف:
- من ينصف المُلهِمين ..؟