طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (12) :
زيــــارة
أجيء إليك أيتها (الكرامة ) بعد ثلاثين سنة أو يزيد ، آتيك زائرا بعد تطواف في بقاع الأرض ، طوعا أو كرها ، امتطي سيارة سياحية ، وشكرا للمرافقين الذين قدروا حنيني ، ومالوا بأريحية نحوك ، لعلي اشتم رائحة الصبا التي تركتها بك ، وربما أعيد الشعر الذي بدده الزمن عن رأسي ، وقضى على الباقي بالمشيب.
اهبط إليك بالسيارة ، وما كنت احسب أني سوف أزورك بعد هذا الدهر ، وعلى هذا النحو ، وقد غيرني الزمن وشكلتني الأحداث .
أيتها (الكرامة ) ، لقد تركت بك اعز ما ينبغي حمله ، أياما تعايشت بها مع مفرداتك ، مع أكواخ طينية ، تفصلها أزقة ضيقة روث وثغاء أغنام ، فلاحون يترنحون تعبا أو جذلا ، نخيل وخبّيزة وخرفيش ، ورفاق من الغرباء الذين يبحثون عن شيء لا يدرونه، يزمعون فعلا يتكوّن في الذهن ولا يعرفون الطريق إليه ، يفتعلون الغموض كما يفتعلون التخفي ، ينتشر في أجسادهم مخاض لشيء ما .
بك تستقر السيارة ، وأنا أحاول أن استعيد تفصيلات المكان، تعيد الذاكرة تكوينه ، فأرسمه من جديد ، بالرغم من انه يخادعني ، لا ادري ؟ ربما يتعتب علي أو ينكرني ، يدير وجهه غير عابئ بأشواقي ، حفّز ذاكرتك جيدا ، ولا يخدعنّك تكرشي وبدلتي الفاخرة ، ونظارتي السميكة ، أنا لا أتنكر ، فلا تنكرني ، الاتعرفني؟ انظر اليّ جيدا ، واذكر وهج الشباب والخطوات الوثابة ، ألا تذكر ابن العشرين ؟ الذي تعفر بترابك واستحم بشمسك ، ألم تره وقد أثقلته الوحدة والجرح المؤرق والكبرياء المشروخة ، تفرس بي كما أتفرس بك ، واستشعر نبضي الساخن كما أول مرة ، قبل ثلاثين سنة ، حينما كنت لا املك رصيدا غير روحي أقايضها كيفما اتفق ، ارحمني ، واشفع لضعفي ، فأنا املك أرصدة كثيرة، اقلها نفعا هو روحي .
لا عليك وقل لي بربك أين خبأت رفيقي الذي لا اعرف له اسما، وما زال يعيش بداخلي كل هذه المدة دون اسم ، كم يبهجني لو يأذن لي كي انتقي له اسما ، انحته من صفاته الكثيرة ، أيعجبك أن اسميك وسيما ؟ فقد كنت وسيما ، أم صادقا ؟ فقد كنت صادقا ، أمينا ؟ رفيقا ؟ ثائرا ..؟؟؟
أرجوك ولا تخادعيني أيتها القرية الرؤوم ، فقد تركت بك من يعز فراقه ، وافصحي ولا تناكفيني ، أين الجرف الذي اختبأنا به سويا ، حينما لم نكن نعرف الحرب ولا تعلمناها ، فقد داهمتنا بلا مقدمات ،وكنا نغفو بأحلام الصبا ، والكرامة فوق كل اعتبار، فأبت علينا الدوس والاستكانة ، استنفرنا أشواكنا ، وغدونا عنفوان الأمة وغصنها الرطيب ، تذاكرنا العابنا البريئة في حارات المخيم ، _ عسكر وحرامية _ لعبة قوامها التخفي والترصد ومفاجأة الخصوم .
اين الجرف الذي اختبأنا به ونحن نراهم خلف النهر رؤيا العين ، حينما كانوا يستعدون بغطرسة مكشوفة ، وتركونا لغريزتنا القتالية ، فهل ينفع التخفي خلف سور أو شجرة ؟ لا بأس ، سنضع على قدر فهمنا خطة الدفاع والتقدم ، فقلت له ولم اسأله عن اسمه بعد ( يا رفيق، ستكمن أنت هنا لتطلق النار على الجنود الإسرائيلين إذا نزلوا من الدبابة ، وأنا سأترصد بـ (الآر بي جي ) من خلف العبارة فرجاني بكلمة رفيق ، وطلب مني أن نتبادل المهمات والمواقع، فوافقت ، ولم ادر سببا لـذلك.
أين الجرف وأين العبارة ؟ أطالبك بها أيتها الكرامة ، ولك أن تعتبي عليّ كما أنا عاتب على نفسي ، فلا يليق بعاشق أن يغيب طويلا
هو ذاك الشقاف ، أراه كما رأيته أول مرة ، ينظر إلينا ، كمحجر العين ، أقواس متراكبة من طبقات صخرية كثنايا الجفن ، وهدب العين ، وكأم أدفأنا ذات ليلة بتناها فيه .
إذن ما دام الشقاف هناك ، فسيكون الجرف هنا ، حيث اقف ، حيث أطلق رفيقي طلقة الآر بي جي صوب الدبابة ، أصابها عن بعد عشرة أمتار إصابة غير قاتلة ، انتظرت بالكلاشنكوف كي احمي انسحابه ، لكن لا ادري من أين أتتك الزخة ، مزقتك بلا رأفة ، وما كان بوسعي أن افعل لك شيئا ، فعلى من سأطلق الرصاص ؟ فقد تبعتها آلية أخرى ، وسحبتها إلى الخلف .
سامحني أيها الرفيق على استجابتي لتوسلاتك ، فلا ادري من هو المحظوظ ، ومن الذي كسب ومن الذي أعطى ، وما كان بإمكاني إلا أن أدفنك بالجرف ، لملمت أعضاءك ، ورتبتها كما ينبغي ، أهلت عليك التراب ، وقرأت عليك الفاتحة وآية ( ولا تحسبنَّ ...)
إذن سيكون قبرك هنا ، في منتصف المسافة بين الشقاف وشجرة النخيل ، ولكن لماذا مدّوا على قبرك إسفلتا للسائحين ؟ ومن الذي تنكر لك ، فما كان بإمكاني أن أقيم على قبرك شاهدا ولا نصبا ، فسامحني يا رفيقي الذي لا اعرف اسمه ، واعلم أني أذكرك بقوة ، فملامح وجهك البريئة ، لم تزل تنعشني ، وحزمك يشد من أزري ، فأنا ذاهب صوب أريحا ، سأسلّم لك على كل الذين تعرفهم ولا تعرفهم ، ولا املك إلا أن اقرأ لروحك الطاهرة ؛ الفاتحة وآية ( ولا تحسبنّ ...
24/ 7 / 2000