طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (13) :
ســــميرة
نتباطأ ونحن نغادر قاعة الأفراح ، لعلنا نتلاقى كعائلات ، نفتعل الترحاب حينا وحينا يبهجنا هذا اللقاء ، نتبادل أسئلة
نمطية ، ونعيد التواصل ، ففي الوقت متسع لمزيد من التلاقي .
وجه يداهمني ، وبقايا ملامح تنعش الذاكرة ، أتراها سميرة !!؟؟ لا ينبغي أن أقحم نفسي على شكّ ، هي برفقة زوجها ، وزوجتي تشاركني مراسيم التعارف العارض ، وزوجها أيضا أكاد أميزه ، فمنذ ربع قرن كنا شيئا مختلفا ، أرى في نظراتهما استطلاعا ، كما هي في نظراتي ، ندنو من بعضنا ، تمد لي يدها بلا تردد، فأبادر كمن يخمن :
_ الأخت سميرة ..؟
تورد وجهها وبرقت عيناها ، وأنا أحاول أن ابقي التعارف سطحيا ، والمسافة بعيدة ، دفعا لإحراج ما ، اعرّفها بزوجتي ، وتصافحها بحرارة ، كانت تسألني بجرأة لم أتوقعها ، ربما اكتسبتها من عيشها في أمريكا ، لكنها أغبطتني ، أنعشت الروح ، وجعلتني اكثر تحررا من قيود العرف أمام زوجها .
أزوغ ببصري ، وأنا استحضر ذاك العمر الورديّ حينما كان اكبر ما فينا القلب ، وعيون تعرف مرعاها ، ونشاط يحسده النحل على تطوافه ، وخيال يوسع الكون على هواه ويخلق فردوسه كما يشاء .
يسألني زوجها :
_ اعتقد انك تعمل بالكويت ..
هو يفتش عن مداخل للحديث ، وأنا كذلك ، اسأله لأقترب أكثر:
_ هل عندك أولاد ؟
_ بنت واحدة ...
رثيت لهذا ، وأدهشتني نظراتها الودود ، كأنها تستزيدني كلاما .
استنهض عاطفة أخالها جفت منذ زمن ، أطابق صورة تبرق كالحلم على وجه مليء بالتغضنات ، وبشرة تسترخي بوقار تحت الجفنين ، تحمل مزيدا من طبقات العناية ، تشهر ابتسامة صريحة خلفها أسنان بيضاء كاملة التكوين ، وثياب ثرية بالحشمة والوقار، انظر لزوجتي ، واذكر رغبة مبكرة للزواج بها ، استنـزفتني ، وأحرقتني بلوعتي ، وحولتني رجلا يهرب دوما من الخيبة إلى الحلم . كم تمنيت ألا أراها على هذا النحو ، ألا اتلف تلك الزنبقة التي أينعت على مشارف الصبا ، وظلت معلما على تفتح الحياة .
ادعوهما لزيارة عائلية ، ويردون كما ينبغي التهذيب والمجاملة ، ونترك بعضنا ، نجول بأبصارنا في الوجوه البعيدة ، وأراهما يحدقان بإصرار كأنهما يبحثان عن وجه ، ولا أكاد أغادر صوب الخارج خطوة ، حتى ظهرت لي سميرة ..!! فأي جنيّ استحضرها لي من عالم الغيب ، واخترق بي ربع قرن من الزمن ؟ وأي ملاك جسد لي حلما رأيته قبل قليل ؟ هتفت بلا وعيّ :
_ سميرة ..!!
كما كنت اهتف بها إذ كانت تفاجئُني على ملتقى ، وعلى غير إرادة انبثقت الشحنة ، ولا ادري إن كنت قد جهرت بالصرخة أم كتمتها ، ، هو ذاك الشعر البني الباهت كالشقرة ، والحركة المتقدة ، والحيوية التي تستقطب من حولها ، يا الهي ..!! أية صدفة هذه وأي ذهول ..!! ما كنت اعلم أن الزمن مطاط هكذا ، ويمكن اختزاله على هذا النحو من السرعة الخيالية .
ها أنا رجل افلت منه عنان الزمن ، وعاد ذاك الفتى الذي كان يرى حقه في الحب كحقه في الحياة ، فكم حب أصابه وذوى..!
تنظر لي زوجتي وأنا أتابع بشغف حركتها الطفولية ، وعدم اكتراثها لندائي ، وانطلاقها البريء إلى أبويها ، وسميرة تقول لي:
_ هذه ابنتي ... ألا تشبهني ...؟
شكرا لك يا سميرة على هذا الإنجاب المدهش ، فما هان عليك بؤسي وانكسار الحلم في روحي ، وما هان عليك انطفاء الصورة الأولى، والومضة التي لمعت فجأة وكنت أظنها خبت .
ما اكترثت بي سميرة الصغيرة ، لكنها أعادت لروحي توازنها
25 / 6 / 2000