طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (15) :
ابن عم خالي
لأبي هوايته التي يمارسها بمزاجية عجيبة ، أراه بها كتلة من المتعة الصرفة ، وحالة من التلذذ الذي يذيبه ذهبا خالصا ، حينما يقدم لي شخصا عزيزا من العائلة :
_ انه ابن عم خالك ، سلّم عليه !!
ويدفعني للممالأة ، ويغريني بهذه العلاقات الاجتماعية، وأطاوعه كرها على ارتياد الحفلات والمآتم والزيارات الخاصة ، ويؤكد لي وهو يخاطب الجانب العقلي والمنطقي عندي :
_ هذا ما تبقى لنا من وسائل التواصل .
ويعيد على مسمعي ذكريات البلدة ، والأجواء القروية الدافئة ، وأحاذر أن أبدو مناكفا ، حينما يقحم على ذاكرتي شخصا لا أجد مبررا كافيا للتعرف إليه ، وحينما يأخذ وقتا طويلا في تنوين النكرات ، وأحاول أن احترم اهتمامه بالآخرين ، ولكن ؛ لماذا تصر يا أبي على أن تجعل هذا الإرث ثقيلا على كاهلي ؟
هو ذا يلاقيهم بترحاب شديد ، لا أظنه مفتعلا ، يقدمني لهم باعتزاز اشعر به ، يصادق على انتمائي لهذا المجتمع ، ويؤكد على بلوغي سن الانتساب إلى المحفل العشائري ، ويشرع راسما بذهني خارطة كي أضع كل شخص في مكانه ، وأصله بالآخرين بخطوط أميّز نوع العلاقة ودرجة القرابة ، ربما خطرت ببالي مثل هذه الفكرة _ وأنا ادرس انساب الرواة _حينما حاولت أن ارسم شجرة ، مجسِّما تسلسل المحدّثيـن.
_ هذا أبو وائل ، موظف كبير بالدولة ، لكنه يحب ارتداء العباءة .
انه يعمق بعض الخطوط في شخصية ابن عم خالي ، اذكر أني رايته ، واذكر أني لم ارتح له ، انه لا يبدو ودودا ، بل قاسي الملامح ، ذا لهجة بيروقراطية ، معتزا بما يحاط به من اهتمام ، كأي شخصية نمطية سيئة ، لكن أبي يضيف ظلالا أخرى لصورته؛
_ لقد كنت وإيّاه في المدرسة ، كنا على مقعد واحد .
ذكريات جميلة تضيء بوجدان أبي ، واعرف مدى استشعاره الدافئ لهذه العلاقة الجذورية ، وحنين العودة إلى البراءة، ها أنا اسلم عليه ، وأتحلى بابتسامة صفراء ، وأبدو كما يريدني أبي مجاملا لبقا ، وأغرسه بذاكرتي ، بقسمات وجهه القاسية ، بأولاده الأربعة ، وبناته الخمس ، وأظل اذكر أيضا أن ابنه وائل متزوج من ابنة عمته جليلة ، وقد رزق بتوأم ، أما ابنه الثاني بلال ...
اتصبر واسمع هذا المقرر في انساب العائلة والبلدة ، واقدر يا أبي حرصك عليها من الضياع ، وتثمينك العالي لها ، لكن ..!! أرجوك لا تسترسل في علم لا أقوى على استيعابه ، أمس ، اجتزت بصعوبة مادة انساب الرواة والمحدثين ، لماذا تدفعني لكي احتفي بشخص لا أراه مهما؟ اصنع له تمثالا حجريا صامتا في ذاكرتي ، وازرع حوله عائلة من الأولاد والأحفاد ، واعلق على صدره نياشينه الباهتة ، وبطولات لا اعرف عنها ، وعظمة لا أراها ؟
كفى يا أبي ، فأنا لا اعرفه إلا بهذه العباءة المصطنعة للمناسبات ، وهذه المظهرية التي يستحضرها من التراث ، وهذا الشكل النمطي للوجاهة .
في إغفاءة السأم الذي غرقت بها ، اطل وجه سليم ، أعاد الانتعاش إلى روحي ، والحيوية إلى أعضائي ،وأنقذني من هذه الوهدة التي وجدتني فيها ،
ألفيت نفسي أعانقه بحرارة ، كي أنسى وجود هذا الكهل الأشيب ، ذا العباءة المزيفة ، فقال أبي وكأنه يحتج على تهميشه
_ أتعرفه ...؟؟
نظرت إلى ابن عم خالي ، رأيت على وجهه ابتسامة رضا حقيقية، ووداً بينه وبين سليم ، كدت أنكره ، فكرر أبو وائل السؤال.
_ أتعرفان بعضكما بعضا ...؟
شعرت أن السؤال يتضمن استغرابا ، ومفاجأة مفرحة ، فقلت بحيوية :
_ انه صديقي ، انه رئس مجلس الطلبة في الجامعة ، هل تعرفه ؟
_ انه ابني الثالث ..
قال أبي وكأنه يعاتبني:
_ أولا تعرفان أنكما أقرباء ..؟؟
قلت وأنا أحاول ألا اكسر انتشاء أبي :
_ إننا زملاء في الهيئة الإدارية لمجلس الطلبة ,
قال سليم الذي يتسم بالبلاغة:
_ وهذا نوع من أنواع القربى ..!!
تسللنا بلا استئذان ، نتابع حديثا لم نكمله هذا الصباح في الجامعة .
وتركنا لوالدينا حميميتهم الخاصة .
28 / 5 / 2000