طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (17) :
إعـــدام لــــــوحة
يعج الأ ستوديو بالكوادر الفنية والكمرات وأجهزة الإضاءة، وضجيج بالرغم من الاسترخاء الذي يمارسه الجميع ، ينتظرون بفارغ الصبر ذاك الفنان الذي يرسم لوحة ، ليتم تدميرها في مشهد من ثلاثين ثانية ، والمخرج _ ككل المخرجين _ في أعلى طاقة انفعالية ، فالكمرات الباهظة الأجرة ، معطلة منذ خمس ساعات أو اكثر ، وقد استعجله اكثر من مرة ، لكن الفنان المستغرق لم يكترث كثيرا ، بل استمر أسيرا للإلهام الذي يتدفق عليه ، يبحر في تفصيلات لا يستشعرها أحد ، يثري الابتسامة الشفافة عذوبة آسرة ، ويفجر في النظرات سحر العشق ، تفاجئ المتلقي بصدمة الانبهار .
قال مساعد المخرج كأنه يحدث نفسه :
_ ما هذه العبثية ..؟ يرسمها وكأنها ستبقى إلى الأبد..!! ألا يعلم أنها ستقطّع بالسكين ، وتلقى كإحدى القمامات ..؟
ربما سمع الفنان تسخيفا من قبل لجديته المفرطة ، انه يعلم يقينا أنها ستكون ديكورا للمشهد ، إذن ..، لماذا الإصرار على هذا الإتقان..؟ وكأنه يعمل على غير إرادة منه ولا هدف .
تأتي الممثلة التي ينبغي أن تكون الفتاة اللعوب ، تنظر إلى صورتها، ترى الملامح الصارخة ، والتعبير الذي لم تقو هي أصلا على تجسيده ، تغتبط لهذا الوجه النابض ، والحركة الداخلية التي تعتمل خلف النظرات ، والابتسامة التي تُراكِم كنزا من الكلام ، تؤكدها التفاتة مفاجئة تظهر في العنق ، وضوء يتخلل الشعر المنفوش ، كهالة ملائكية، فهل كانت تحلم يوما بصورة كهذه ، إذن ، فكيف يقوى ذاك الممثل المخبول على تحطيمها ..!! شيء مؤلم أن تراها تقب ، فهمست في أذن المخرج وهي تراجع ورقة السيناريو:
_ انه تصرف مفتعل ، الفتاة لم تغضبه حتى يمزق اللوحة بعنف .
ربما خطرت ببال المخرج هذه الفكرة ، لكنه لم يتوقع أن يأخذ الفنان الأمر بهذه الجديّة ، ويندمج بالدور كأنه ممثل ، وان يجلس طويلا يتأمل وجه الممثلة ، ويستغرق وقتا أطول في الرسم ، أما كان بإمكان المؤلف أن يكتفي بركل اللوحة ورمي الفرشاة ؟ كان عليه أن يفكر بذلك أثناء بروفات الطاولة ، فنهض باحثا عن المؤلف ، لكن شيئا أغراه بالتوقف ، إذ رأى لوحة جديرة بالخلود، ويعز عليه أن يشهد تمزيقها ، ويشهد المتفرجين على ذلك ، فهمس في نفسه (أمن الضروري تمزيقها؟) وساءل نفسه عن سبيل لإنقاذها ، فقال للكاتب الفخور بنفسه :
_ سنعدّل المشهد ، فنجعل البطل يركل اللوحة والمنصب .
استاء الكاتب لهذا العبث المقصود بذروة المشهد ، فرمى السيجارة ، وفركها بقدمه وقال :
_ اعتقد انه أنجز اللوحة ، ولا داعي للتعديل .
عادوا ثانية إلى الرسام الذي يقف متأملا لها ، فاعجب الكاتب بهذه الشخصية الفريدة للفنان الحقيقي ، وتمنى لو يعيد رسم شخصية البطل على هذا النحو ، وخاصة حينما رأى لوحة لم يتوقع أن تكون بهذا الإتقان ، إذ هتف :
_ إنها رائعة ...
وبدت الشفقة في نبرته ، وقَدَّرَ للمخرج ملاحظته ، وتابع :
- كنت أتوقع أن يقوم الفنان بتلوين صورة فوتوغرافية مكبّرة .
حمدت الممثلة الله على انه لم يذكر هذا الاقتراح سابقا ، وإلا لحرمت من لوحة سوف تحتفظ بها ، وحرمت أيضا من طاقات أخرى للتمثيل ، فجّــرنها انفعالات حارة ، غزاها بها الفنان ، تمنت لو أن زميلها الممثل كان قادرا عليها ، فقالت :
_ لماذا لا تصوّرون اللوحة ، ويقوم الممثل بتمزيق الصورة ؟
فكر المخرج بتكلفة الصورة ـ بالرغم من وجاهة الاقتراح _ وبالزمن الذي سيستغرقه هذا العمل ، فقال وكأنه يأخذ وقتا للتفكير :
_ يا الهي ...!!! لم اعد احتمل مزيدا من التأخير .
غمر الممثلة سرور ، فقد يتبنى المخرج اقتراحها فقالت مشجعة :
_ سأدفع تكاليف التصوير ، و أجرة الكاميرات
أزاح المصور عن رأسه الأشياء التي يلبسها ، وبدا انه تأثر باهتمام المخرج والممثلة والكاتب وقال :
_ لماذا تصوير اللوحة ..؟ ما الهدف من ذلك ..؟
ابتعدوا قليلا عن الفنان الذي راح يمايز اللوحة عن بعد ، وكأنه ينظر عبر أحداق أخرى ، ، كانت ملامحه عاصفة ، ككل الفنانين الذين يتعرضون لخلجات انفعالية جـمّة ، جلس على كرسيّ كمن يستريح وقد توقفت يده عن تناول سيجارة من علبة نسي فتحها .
قال المصور وقد تفهّم الموقف :
_ أستطيع عمل تقطيع : زوم لانفعال الوجه / قطع / زوم لسكين الرسم الكبيرة ملطخة باللون الأحمر / قطع /لقطة لليد المرتعشة وهي تحمل السكين / قطع / لقطة من قفا اللوحة واليد تهوي بالسكين / قطع / السكين تخترق قماش اللوحة من الخلف في عدة أماكن /قطع/
بدا الارتياح واضحا على الوجوه الأربعة ، إلا الفنان الذي لم تزل أصابعه تبحث عن سيجارة في علبة مغلقة ، اتجهوا نحوه فما عاد إكمالها مهما ، لكنه نهض وأصابعه تبحث عن سيجارة بعنف ، تناول سكينة الرسم وهوى على اللوحة يمزقها .
4/ 8 / 2000