طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (18) :
المفتـــــاح
هل تختلفون على مفتاح ..؟؟ انه لأمر طريف أن تتنازعوا على مفتاح صدئ قديم ، صنعه حداد قبل قرن من الزمن ، بلا حرفيّة ولا مهارة ، ثقيل ثقل مسدس ، ليس له باب ولا أكرة يدور بها ، ولم تتنازعوا حول الأرض والبيت وبئر الماء ، أيعقل أن يشتد بكم الخصام على مفتاح ...؟؟
أنا لا ألومكم بل أغبطكم وأحسدكم على هذه الروح الشاعريّة ، وأقدر مكانته في نفوسكم ، بل في نفس أبيكم من قبل، فقد كان اثمن ما يملك ، حفظه طويلا في صندوق مفعم بالنقوش ، مطعّم بالصدف والأحجار الكريمة ، واستأثره بمكان عزيز ، يليق به ، كإحدى النفائس ، كإحدى جواهر التاج البريطاني .
أنا لا املك الفصل في خلافكم ، بالرغم من محاولتي ، فقضيتكم وجدانية ، ولا أظن لأحد القدرة على الفصل بها ، لأنه يعجز عن سبر اللواعج التي تفيض بها نفوسكم، كما عجزت ذات مرة في قضية ادّعى بها أحد الأغصان ملكيته لأحد جذور الشجرة .
عفوا ... لا تعيدوا على مسمعي قصة أبيكم مع المفتاح ، فأنا اعرف التفاصيل ، وكل أهالي ( الحَوْرَة ) يعرفونها ، في المخيم والشتات، وسجلها بعض المؤرخين ، وصنع كاتب منها أسطورة، بل ملحمة لذاك الفتى الذي رأى من خلال سنواته الثماني فلما صامتا ، وما كان يعلم من الأمر شيئا ، سوى أن يشاهد حركة متوترة، خوفا وإرباكا وهروبا جماعيا ، وأناسا يحملون أشياءهم فرارا ، وزخّـات من رصاص غير متناغمة الطول أو الحواشي ، جلّ الاستيعاب عن عقله الصغير ، لم يدر لماذا يقفلون الباب ويلوذون بالمغارة القريبة ، وكيف انتبه إلى المفتاح الذي بقي بالباب ، وكيف تسلل ليستله ويعود به وقد ناءت بحمله كفاه الصغيرتان ، فما اشتكى ، بل وجد انه يحمل شيئا جديرا بالمعاناة، عبر دروب الرحيل الطويلة .
ليتني املك ما تملكونه من وفاء ورثتموه عن أبيكم ، فها هو أكبركم يتنازل عن قطعة الأرض العليا في ارض ( الحَنِيَّة ) ، عشرة دونمات مقابل أن يحتفظ كابن بكر بالمفتاح . أكتمكم وأسائل نفسي عن هذا الهوس الحميد ، والجنون المركب ، فمن يملك تلك الأرض ليقايض بها .؟ ارض لم تشاهدوها ولا شاهدها أبوكم من نصف قرن أو يزيد ، انتم تؤمنون بان لكم أرضا بـ( البيّوضة ) و ( الرداع ) كما انتم تؤمنون بان نهرا من عسل في الجنة ، ونهرا من خمر ، وينتصب في أذهانكم الى الأبد بيت ريفيّ كما هي أبواب الجنة أزلية ، لا تفنى أبوابها ولا مفاتيحها .
عجيب أمركم يا أحبائي ، إنكم تقتسمون أرضا هي في أذهان الشيوخ فقط ، لا يغرنّكم ذاك المخطط الطبغرافي الذي رسمناه من الذاكرة ، وتواضعنا على خطوط رسمناها ، وملكية أقررناها ، لكن الواقع شيء آخر ، فـ ( الحورة ) أُزيلت تماما ،وأُزيلت كل المعالم التي تعارفنا على أن تكون حدودا ، وحولها اشتراكيون إلى مزرعة جماعية ، وصار اسمها ( كيبوتس حيرت ) فأين ستجدون البيّوضة و( الهدفة ) و( رجم القاضي)؟
يا أحبائي ، لستم كالسوقة تختلفون على التوافه ، لذلك فإني اكبر فيكم هذا الحماس للإستئثار بمفتاح ، استأثر به أبوكم دون اخوته ، وكافحهم جميعا لحيازته ، فقد حمله بجدارة إلى المخيم ، وحينئذ قيل له كطفل محل ثقة ( احرص عليه ، ما دام المفتاح معك فلن يسرق البيت أحد )وكنّا نتندر بهذا الحرص الزائد ، لكن ، كبر الحرص معه ، وصار لهذا الحرص معانيه الأخرى .
ارحموا حيرتي ، ولا تثقلوا على شيخوختي ، فقد بحثت في كل القوانين الوضعية والشرعية ، وكل الأعراف وأنظمة القياس ، فما افضى بي ذلك الى الفصل بموضوع عاطفيّ ، لقد رفضتم جميعا القرعة ، ورفضتم تداوله بينكم ، وقلتم ان المفتاح لا يملكه إلا واحد ، فهل ما تتناكفون به صحيح ؟ فالمفتاح ليس مأثرة ، المفتاح مرتبط بالباب ، ولكن اين ذاك الباب ..؟
رويدكم ..، فأنا كقاض رأيت في وقت ما ، أن المفتاح لمن يحضر الباب ، وبما أن الباب مندثر منذ نصف قرن ، فإني لن اطلب منكم المستحيل ، بل اطلب منكم أن تتحول مزايداتكم العاطفية إلى فعل ملموس ، أراه وأقيسه ، سأطلقكم لقدراتكم الخّلاقة ، لعلكم تفعلون ما يجعل للمفتاح بابا ، لعل مبادراتكم المبدعة تجعل للمفتاح مكانا غير تلك العلبة ، لترقوا إلى هدف أسمى من توارث روتيني أو شرعيّ له.
عندها لن أكون الحكم الوحيد ، فجميعا سوف نختار ذاك الجدير بحمل المفتاح .
12 / 8 / 2000