طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (19) :
حلم دجـــاجة
مدى من الدجاج المتراص ، يمتد بياضا تخالطه حمرة من الأعراف ، تتمايل بلا انتظام ، كسنابل أتعبتها النسائم ، تتصاعد منها نقنقة غير متناغمة ، كمستنقع من ضجيج ، وزحام يحد من الحركة النشطة ، تستبد بإحداهن رغبة في الانعتاق من هذا الضيق ، ربما سئمت من انتظار لا تعرف له معنى ، كلّت قدماها من الوقوف ، تسائل نفسها ، فلا تدري متى ابتدأ وجودها هنا ، ذاكرتها الضعيفة تخذلها ، فما الذي جعلها ضمن هذا الجمع الهائل من الدجاج ؟
تختلق هذه الدجاجة تفصيلات صغيرة ، تحرك الصفو الساكن في الزمن الرتيب ، تدفع جارتها ، تزحمها على العلف الممتد على الشريط، غذاء شهيّ مبذول ، لكن الجارة تُعرض عن هذه المناكفة المقصودة ، فهي منهمكة بانتقاء حبات الذرة الصفراء ، فقد كبرت على الحب المجروش ، والأشياء الأخرى الغريبة ، فلماذا هذه اللامبالاة ؟ ولماذا الاهتمام بالأكل فقط ؟ ولماذا هذا التأدب على الموائد ؟
منذ أن استشعرت أن لها جناحين ، ودّت لو تستعملهما لغير التمطي والرفرفة الباذخة ، تساورها رغبة في الطيران ، أن ترتفع وتحلق، رغبة دفينة لا تدري من أين أتتها ، ربما اكتشفتها ، أو عثرت عليها صدفة ، لا تعلم من زرعها بها ، أو ألقاها بذرة خاملة، فنسيت موسم إنباتها ، إنها تستشعر حيزا مناسبا تفرد به جناحيها ، تحركهما بقوة ، فتثير ضجة صغيرة ، توسع من الفجوة قليلا ، تحس بخفة مرقصة ، وهمة اكثر للقفز ، يسرها التقدم الذي حققته في القفزة الأخيرة ، ما جعلها تقترب من حلم التحليق في الفضاء .
ما هذه الفكرة المجنونة التي استبدت بها ! وأي هوس هذا الذي أصابها ؟ فجعلها تقفز برعونة ، تتشبث اكثر بظهر جارتها المنهمكة بالأكل, وتعيد الكرة بشكل افضل ، تعتليها وتوازن نفسها على الظهر المترجرج، تصيح فرحة بالانتصار ، بهذا الأفق الرحب الذي لم تشهده من قبل ، لكنها تسقط ، وتعيد التجربة ثانية ، فقد تذوقت نشوة النصر ولذة الاكتشاف ،فبدت لصاحب المزرعة تصرفات ذكورية ممنوعة ، فتمتد لها اليد العملاقة ، تمسك بها ، تستغيث قليلا أو تحتج ، تشعر بوخزة في فخذها ، تلهيها عن المنظر الذي تفاجأت به من عل ، شيء ما يسري في جسمها وهي تُسقط على الأرض ، رجلها ثقيلة وكذلك الأخرى ، فلا تسعفانها على الحركة التي تريدها ، بل تستسلم إلى ارتخاء عام وسكون .
لا يمنعها الخدر العام الذي تغرق فيه من استذكار ذاك الأفق من الرؤوس البيضاء المحمرة ، وتلك الإطلالة البديعة التي استشرفتها لحظة قصيرة كالحلم ، لعنة الله على الكسل ، الذي يخلدها إلى الدعة، فلا ترى لها عملا غير التهام العلف اللذيذ ، فتحشر رأسها بين هذه الرؤوس المدربة على الحركات السريعة المتواترة ، يتخمها الأكل ، وتذوي ، وترى في المنام أنها تطير .
تحشر الآن بمكان لا تدريه ، أعمدة متباعدة ، تمكنها من أن تدس رأسها بين هذه القضبان، ربما تستطلع هذا التغيير ، خصوصا هذا الارتفاع الذي تتمناه عن الأرض ، هكذا داهمها الطيران دون أن تفكر به ، ترى من جديد ذاك المنظر الرائع ، فأين كان مخبأً هذا العالم المتسع ؟ تطل بلهفٍ من بين الفجوات ، ويغمرها حبور عام إذ استقر بها المكوث على مرتفع أعلى ، يأسرها فيض الدهشة ، إذ تشعر أنها تتحرك ، تمر الأشياء من أمامها بلا جهد، تنظر للأسفل فتدرك كم تطير بلا عناء ، تحاول التركيز على الأفق المستقر نسبيا ، هربا من الدوار الذي يصيبها حينما ترى الأرض تعبرها سريعا .
من جديد تزج بلا هوادة ، وتحشر بعنف خلف قضبان أخرى، يضايقها الاكتظاظ الكثيف ، لكن الفضول يلهيها بدجاجة ملونة شرسة ، كثيرة الحركة والصياح , كأنها تأنف أن تكون بين هذا الجمع الأبيض الوادع ، بها فظاظة وميل إلى الهرب ، لم تشغلها كثيرا ، لان تلك التجربة من التحليق ، حلم لم تتخلص من سيطرته بعد ، حلم مملوء بالأشكال والألوان والخطوط ، وأين منها هذه الجدران الملساء الناصعة البياض ، تشعر بحنين إلى ذاك الحلم ، وشوق مستبد إلى تلك التجربة ، فمتى تخرج مجددا من خلف هذه القضبان؟
ما هذه الفتحة المتسعة التي تغريها كي تتمادي اكثر من إخراج الرأس ، لتقف على مرتفع لا بهجة منه ، لكنها تهبط ، تسقط سقوطا مباشرا دون إرادة منها ، لم ينفعها بسط جناحيها والتشبث بأعمدة الهواء ، فقد سقطت بعنف على رجليها ، كابدت ألما خلخل عظامها ، تمنت لو أسعفها التمرين على استعمال جناحيها جيدا ، كما فعلت تلك الدجاجة الملونة التي كان سقوطها ابعد ، تركض برشاقة وخفة ، سريعة ومراوغة ، يغريها الاقتداء بها ، لكن أنّى تلحق بها ! فمتى تدربت تلك الشرسة على هذا الجري السريع ؟ ولماذا تلك الكائنات العملاقة تطاردها ؟ ستفعل مثلها إذا ما اقترب منها ذاك الكائن العملاق ، ستهرب بعيدا ، ولن تستكين لقبضته ، آه لو تستطيع الطيران ، سبق وان ارتفعت قليلا ، ستجرب الآن ، ولتجر ، وترف بجناحيها ، بالرغم من الأرجل الضعيفة ، والثقل المنهك ، وسقوطها اكثر من مرة ، وحيرتها بين الجهات ، واستسلامها للتعب، وتوقفها لاهثة ، تنظر بنكاية لتلك الدجاجة المشاكسة بيد الكائن العملاق ، صائحة مكافحة ، كأنها تخشى العقاب ، تراودها فكرة الإفلات من العقاب بمزيد من التأدب والطاعة ، فلعلها لا تقوى على مزيد من الهرب والمراوغة ، يقرب منها الكائن العملاق ، تستكين وتصدر صرخة استسلام واستكانة ، وربما عطل الخوف ما تبقى بها من قوة ، تطبق عليها اليد الضخمة ، فتنكمش بلا حراك ولا صوت، بينما ترى الدجاجة الملونة في اليد الأخرى تعلن احتجاجها بصوت مرتفع ، تنتفض في كل اتجاه ، فتفلت وتمضي سريعا كأنها تطير .
توضع في مكان منهكة ، بين دجاج نائم قاني الرقاب ، بينما تغيب الدجاجة الملونة ، مخلفة صياحا صاخبا .
لعلها الآن حزينة ، فلماذا لم تتعلم الاحتجاج بصوت صريح إن لم تكن قادرة على الجري والطيران ؟
25 / 8 / 2000