طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (21) :
الكرسي الفارغ
كالروايات السخيفة ، كالأفلام المبتذلة ، كالحكايات الدرامية والقصص الوعظية ، يموت مدير الشركة بلا وريث شرعي ، ونبحر في متاهات التخمين ، حين صار الورثة يتدفقون ، يدّعون قرابته ، وما كان أحدهم يرقى إلى الجد الخامس ، مما جعل فترة الحداد مملوءة بالترقب القلق.
وفجأة _كما في كل الحكايات _ يأتينا مدير جديد ، يدخل الشركة منتصبا كالتمثال ، خطواته قوية ، نظراته مترفعة ، يباعد المسافة بيننا وبينه ، لنجد _ نحن الموظفين _ أنفسنا أمام شخص نمطيّ ، يلف نفسه بالغموض ، بتفرسه لعلنا يوما رأيناه او إلتقيناه ، نحملق به كالقطط المترقبة ، ونحن نُدعى إلى الاجتماع الأول، نسائل أنفسنا بلا طائل ، أهو الوريث الشرعي للشركة ؟ أم كبير الورثة ؟ أم مندوب الحكومة ؟ أم المالك الجديد ؟ وما هي الخبرات التي تؤهله لإدارة مثل هذه الشركة العملاقة ؟ وأي المناصب التي شغلها مسبقا ؟ لكن الأسئلة القاسية وذات الأهمية لنا ، كانت حول أسلوبه الإداري ، وطريقة تعامله ، أتراه سينهج نهجنا أم سننهج نهجه؟
نعلم نحن قدامى الموظفين ؛ ما يتهاداه كبار الإداريين من وصايا حول الحزم والشدة والترفع ، والدبلوماسية الغامضة التي يجب أن يتقن استعمالها ،والأفكار المبهمة والكلمات الغائمة، والمواقف التي تمكنه من التراجع في أي وقت ، مقابل القرارات ذات الصبغة القطعية ، والحزم الملفع بالمنطق والإقناع، والإمساك بزمام الحديث والسيطرة عليه ، وغيرها من السلوكيات التي يتناقلها المديرون شفاها كوصايا أو قواعد إدارية .
نجلس أمامه ، ونرى في تجهمه كل هذه الوصايا ، ونسترجع نحن قدامى الموظفين خبراتنا السابقة حيال هذه المواقف المصطنعة ، فدوما نترك كل الجوانب التي حرص على إظهارها سليمة لامعة ، ونلوذ بالمنافذ التي لم يحصنها ، والأبواب التي نسي إغلاقها ، ونتسلل إلى مفاتيح القيادة والتشغيل والتوجيه ، فابتسامة الثقة والتسامح التي يجيدها كل المديرين ، لا تخفي أبدا القلق الذي يعتمل في نفوسهم .
يوسف عبد الجواد _ هكذا قدم لنا نفسه ، وكأنه عَلَمٌ لا يجهله أحد ، بل فيه من الدلالة ما يكفي ، فهذا اسم شائع وكثيرا ما سمعناه ، أو سمعنا مثله ،لكنه لم يسلمنا إلى معرفة هذا المدير الجديد الذي يحاول أن يكون أحجية .
كان الاجتماع قصيرا ، ولم نكن نرغب أن يطول ، فهذا اجتماع للتعارف وليس اجتماع عمل ، وحينما انسللنا ، وجدنا أنفسنا _ من غير اتفاق _ نجتمع في مكتب المدير الإداري ، فلدى كل واحد منّا _المدير المالي ، والإداري ، والمبيعات والإنتاج ، والموظفين ، والخدمات _ قضاياه الخاصة، ومشاكله الملحة . فالعمل متوقف أو شبه متوقف منذ أسبوع تقريبا ، والزبائن تطالب بإلحاح ، ونحن نماطلهم ونطالب المصنع ، والمصنع يطلب المواد الأولية للإنتاج ، وهذه المواد بحاجة إلى أذون صرف ، وشيكات ، ومعاملات بنكية ، والتي لا بد لها من مدير يقرر ويوقع ، فما كنا نعلم مسبقا أن للمدير ضرورة حيوية كما نعلمه اليوم .
وكما في كل الأفلام السينمائية الرخيصة ، يأتي المدير في كل صباح ، يغلق مكتبه عليه ، كأنه يرسم خطط العمل وحيدا ، نتذرع بأعذار وجيهة وغير وجيهة للدخول إليه ، نطرق الباب استئذانا ،نتصنع المفاجأة حينما نجد السكرتيرة جانبه ، ينقطع حديثهما وكأنهما يفسحان للقادم مجالا ، فنربأ بأنفسنا عن الخوض في الأوهام السخيفة والظنون البذيئة ، ونؤوّل هذا برغبة منه في فهم الأمور من الأبواب السهلة والجميلة ، والسكرتيرة خير من يعلم واجمل من يعلم ، وصار من شأنه أن يتحاشى الاستفسار منا ومناقشتنا والخوض معنا في أمور يجهلها ، ربما أغاظنا هذا التهميش لكننا كنا ندرك انه لا بد أخيـرا أن يلجأ إلينا .
وهكذا بدا لنا أننا نفهمه .
كان الأمر مسليا ، إذ جمعتنا النميمة والنكاية ، وابتعاده عن التدخل المباشر في أعمالنا ، إلى أن صُرف أول شيك من البنك ، لم يكن مبلغا كبيرا، لكن المدير الإداري فطن انه لم يرسل توقيع المدير إلى البنك ، شعر بخطئه، وهرع إلى المدير المالي يستوضح هذا الإشكال ، فاخبره أن البنك يكتفي بتوقيع المدير المالي ، اطمأن لبراءته من خطأ محتمل ، وان ساورته الشكوك الكثيرة حول مستقبل الشركة ، ووقوعها فريسة بيد المدير المالي ، في ظل ضعف المدير الجديد وانعزاليته، هكذا اسرَّ لي المدير الإداري في جلسة خاصة ، ولكي اكبح المغالاة في ظنونه ، سألته أن يذكر لي تلاعبا قد حصل سابقا ، نفى بيقين لكنه أبقى الاحتمال قائما فقد ارجع ذلك إلى المتابعة الدقيقة ، والمسؤولية العالية التي كان يتمتع بها المرحوم .
لم تبق هذه الأسرار حكرا علينا ، فقد ذاعت بين صغار الموظفين ، وسمعنا من يتحدث عن الشركة الخداج التي يسهل اختراقها ، والمدير الذي يمكن إقناعه ، ومديري الشركة السبعة ، وعن (ماري انطوانيت ) التي غدت رغباتها سياسة للشركة ، لذلك كان علينا أن نضع حدا لكل الأراجيف ، فمستقبلنا وقوت عيالنا مرهون بوجود الشركة ونجاحها ، فاجتمعنا بمكتب مدير شؤون الموظفين ، وقررنا بحزم أن نناقش ذلك مع المدير ، لولا ملاحظة أبداها مدير الموظفين تفيد بأنه لم يتسلم شهادة وفاة المدير السابق ، كما لم تصله إلى الآن وثائق تعيين المدير الجديد .
لم يكن هذا الاكتشاف اقل خطورة من ثغرة الشيك التي عرفنا بها ، لذلك أبقيناه سرا بيننا، رغم أننا نصرخ بقوة : وما أدرانا انه المدير !!؟؟ ما هي الإثباتات القانونية التي قدمها ؟ انه لم يقدم دليلا واحدا على أهليته ، لا قرار التعيين ، ولا قرار الحيازة ، لذلك لم نعد ندري إن كنا نتواطأ معه على الخطأ ، أم لم نمارس مسؤولياتنا جيدا وشعرنا بالغباء بل بالسذاجة المفرطة ، وأننا وأصحاب فكر مخنث ، تناقشنا طويلا حول مخاوفنا ، ونسقنا أفكارنا لطرحها أمام المدير ، فلا بد أن نتيقن، ونسأله توضيح الأمر ، واثبات أحقيته بهذا المنصب ، وقررنا أن نوكل الأمر إلى مدير شؤون الموظفين ، الذي يحق له طلب هذه الإثباتات ، ليضعها في ملف خاص .
وكما في كل الأفلام السينمائية السيئة ، كان لنا ما أردنا ، دخل مديرا الإدارة والموظفين ، وتركا الباب مفتوحا ، وتناثرنا نحن في الردهة ، ارتبك مدير شؤون الموظفين حينما تواجه بحدة المدير وغطرسته ، لكن المدير الإداري ، الذي كان اكثر دبلوماسية ورباطة جأش ، طلب منه بثقة أن بقدم أوراق تعيينه القانونية .
كأن المدير قد توقع أمرا كهذا فقال بهجومية تنم عن تغافله المقصود
_ وهل أنت مخول بسؤالي عن هذا الأمر ؟
بهت المدير الإداري وبهتنا ، وتفاجأنا بأمر يجدر بالمدير متابعته ، هل نحن أمام الكمرة الخفية؟ فالمسافة قصيرة بين الحقيقة والخيال ، بدا لنا التساؤل وجيها ، فمن منا قد خطر بباله سؤال كهذا السؤال ؟ رجعنا إلى قوانين العمل ونظام الشركات ، فلم نجد مِن الموظفين مَن يحق له أن يسأل عن أهلية المدير ومشروعية منصبه ، أما كان بإمكان أي واحد منا أن ينصب نفسه مديرا !!
في لحظة صمت وتأمل ، قرأنا أفكار بعضنا ، فلا يحتاج المرء لكي يغدو مديرا إلا لقدر من الجرأة والمغامرة ، ثم يأتي بعد ذلك كل شيء ، لماذا لا نقطع الطريق على هذا اللص ، وننصب أحدنا مكانه، فليكن إذن المدير الإداري مديرا للشركة ، هكذا اتفقنا ، فلا ينبغي ان نقتتل كالرعاع ، فالانقلابيون ، يتفقون أولا ريثما يختلفون .
وكما في كل القصص المثيرة ، احكمنا الخطة ، لننفذها صباح اليوم التالي ، ولكن حينما دخلنا مكاتبنا ، وجدناها مشغولة بمديرين جدد، وقدم لنا أمر إقالتنا من مناصبنا مع جميع حقوقنا القانونية .
ككل القضايا المنطقية ، حيث تلتحم المقدمات بالنتائج ، لم نستطع ان نسأل هذا المدير تبريرا لإجرائه هذا ، لأننا أصلا لم نستطع أن نسأله عن شرعية تعيينه .