طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (22) :
طريد الظــل
الآن … اقرر بحزم أن اصطاد كل الذكريات التي تربطني بك وأن أحصي كل اللحظات التي اخترقت فيها كياني ، وفرضت نفسك على وجداني ، واشتغل بك تفكيري ، ها أنت تمر بي للمرة الألف _ لا اذكر تماما _ فأنا أعرفك كما اعرف ذاتي ، بوجهك المميز المطبوع بالجفاف ، وشاربك الكث المهدل الممطوط ، تحمل فوقه أنفا مجففا حادا كالمخلب ، وعلى جانبيه محجران غائران ، تختبئ فيهما عينان صغيرتان زلقتان معتمتان ، لا يشفان عن عواطفك وأفكارك .
لماذا خلعت نظارتك اليوم ؟ شاهدتك تلبسها أمس بالحافلة ، كانت كبيرة ، تغطي وجهك القاتم ، تبدو ثقيلة كما لو تُميل رأسك إلى الأمام ، وتقوس ظهرك الرقيق اللحم، تجيل من تحتهما نظراتك ، تتفرس الوجوه ، وتلحظ استغراب الناس لملابسك الفاقعة الألوان ، وحذائك القماشي الأبيض ، ذوق نسائي مشوه ، لا ينتابك الحرج ، بل تبحث من تحت نظارتك عمن يسترق منك نظرة فضولية ، تستطلع رأي الناس بك ، وتقييمهم لك .رغم انك تبدو اكثر اهتماما بغليونك وملابسك وعطرك .
أوكد لك أنني لم اكن لاهتم بك بادئ الأمر ، فأنت عاديٌ كما هم ملايين البشر ، لكن فضولي الذي أتميز به ، دفعني نحو متابعتك ودراستك ، وتمييزك عمن سواك ، فأنت مغرق في الذاتية ،_ هل تصغي إليّ ؟؟_ تستمتع بغموضك المصطنع ، تخفي بريق عينيك ، وتطلعك ، واشتعال نفسك بالأشياء ، لكنك تطفئ انفعالاتك عمدا ، تعتقد أن ترفعك له إغراء ما ، كأنك ذو جاذبية آسرة ، ومخزن أسرار ، قمين بالدراسة والاهتمام ، ولا فرق عندك إن ذموك أو مدحوك ، المهم أن تبقى مثارا للجدل .
بالأمس ، حينما نظرت إليك كانت عيناك باهتتين ، ولا عمق لاستبصارهما ، هي نفس النظرات التي كانت لك على شاشة التلفزيون ، ما عدت الآن اذكر موضوع الندوة ، وما كنت تتحدث عنه ، لكني اذكر حرصك على إثارة الترقب والفضول ، تفرشه قبل كلامك ، تحاول أن تكون نجما في عالم الفكر ، لكنك لا تدري كم أشعرتني بتفاهتك ، اعتذر لأني لم اعد اذكر أفكارك لأناقشها ، أو مقطعا لأعرضه ،ولكني اذكر كم كنت تكرركلمة ( يجب...)ترددها باستمرار ، كما تستعمل( من اللازم …) و( من المؤكد )، وكم كانت الأفعال التي تستخدمها مجزومة الآخر ..!.
سمعت نبرتك التي طالما الفتك بها ، صوتك الأجش الذي يغطي على قامتك الهزيلة ، وعظامك الناتئة ، كانت مفارقة عجيبة أن تصرف اصغر بدلة لأكبر رتبة عسكرية ، وكنت تحتال ، وتلبسها فوق كثير من القمصان والثياب الداخلية ، فتفضحك العروق على رقبتك ، كنت لا تحب السير بين الجنود برفقة أحد ، لأنك ستغدو قميئا ، لذاك كنت سيِّء الإدارة ، لا تتواصل مع أحد إلا من فوق الورق ، تقرأ تعليماتك من خلف شباك منيف ، نستمع إليك ونعرف انك تقف على صندوق ، نكتم قرفنا وسخريتنا ، ونستعيذ من هذا السخط الذي حل بنا ، نتصبر ، ونحن نسمعك متلذذا ، تعلن الجزاء والعقوبات علينا ، كنت أمقتك وأخبئ رأيي بك مع أشيائي الخاصة ، في الصندوق المقفل ، وأحاذر أن تفوح ، ولكن حينما حاربنا معك ذات مرة ، كسر الصندوق ، وتطايرت محتوياته ، بل تطايرنا أيضا ، إلى أن رأيتك يوما تكلم الصحفيين عن انتصاراتك العظيمة ، عندها عادت لي آرائي المهاجرة ، رايتك مجردا من اسمك ورتبتك وكنيتك، وجميع ألقابك التي كنت تجعلها معرِّفةً بك.
لكني أسميتك يوما (وندي) ، لست على يقين يجعلني عارفا بالسبب ، ربما لأنك كنت تشبه بطل قصة ( وندي ) التي كنت تدرسنا إياها ، إذ كان وندي راعيا للأغنام ، وكان في تصرفاته معها إمبراطورا ، يعقد محكمته العليا على ربوة ، عن يمينه حمار وعن يساره كلب ، فيقرر (الثلاثة) إعدام التيس الذي نطح الشاة بغير ذنب ، دون استماع لدفاع أو إصغاء لاحتجاج ، بل يقطع على المتهم كل قول ، ويقاد إلى المقصلة ، ويهوى على رقبته بالبلطة ، فينبثق الدم ، وتتحقق العدالة ، لا أدري لماذا قارنتك به ، وأوجدت أسباب التشابه ، ربما كنت تضربنا بقسوة ، وتدمي اكفنا الصغيرة بالعصا ، تستمتع بإرهابنا وتخويفنا ، لا تعرف أي معنى لوجودنا سوى أن نضرب.
لم تكن طفولتي تسمح لي بمزيد من فهمك ، لكني مخرتك بكل تفاصيلك وأبعادك ، كنت أكبر منك ، لا أخافك ولا أمقتك ولا احبك ، كنت عندي مريضا ، أو حالة مرضية ادرسها ، أكتشفك كما الجيولوجي ، أجسّك في كل موضع، أفهمك كمجموعة من المساحات ، والعلاقات ، كنت أقول فيك بما يقوله صديقي فرويد حينما يحلل حالات الكبت ، كنت أراك مزدوج الشخصية ، مصابا بالفصام ، تتمظهر بالملابس الغريبة الشاذة ، تنهار أن لم يثن عليك كثيرا ، لم تكن وسيما أو أنيقا ولا مثقفا ، ولم تكن ناجحا او متميزا ، لكنك كنت تعتقد في نفسك كل هذه الأشياء ، وتحب أن يصفك الناس بها ، ويعاملوك على أساسها ، كنت رجل صالونات ، يغرك أن تحظى بإعجاب النساء ، لكنك لم تظفر إلا ببنات الهوى ، كانت تستنـزف جيوبك وأعصابك وحيويتك ، ورغبتك أن تكون محبوبا ، ربما لان أمك لم تكن تعطيك من الحب الذي تريده ، لقد كانت مشغولة عنك بابيك ، ثم بزوجها ، ومن فرط وحدتك حاولت الانتحار صغيرا ، وما زال اثر المحاولة على جسمك ، ها أنت تحب النساء وتكرههن ، تحب الآباء وتمقت الأزواج ، ترى كل شيء ملتوٍ ، فتتناقض كما هي الحياة متناقضة ، أو كما أنت متناقض معها ، لكنك ارتضيت لنفسك هذه الشخصية .
هذا أقصى ما عرفتك به ، لكن أبا نصر السيوفي ، حدّثنا في مقاماته ، فأسهب فيك وأطنب،وقال انك كنت صاحب خان ، في الطريق الذاهب إلى خراسان ، تستقبل القوافل الذاهبة والآيبة ، ينيخون في فسيح خانك ركائبهم ، ويغسلون عندك عناء تعبهم ، لكنك كنت ذا رأي غريب ، هو في القياس عجيب ، تنـزلهم كما أنت تريد ، وتوزعهم حسب تصنيف فريد ، تنظر في القوم أيهم الطويل وأيهم القصير ، أيهم الغني وأيهم الفقير ، أيهم المليح وأيهم القبيح ، تجبرهم على أن يكونوا كما تشاء ، لا كما يشاؤون أو كما خلقهم الله ، إلى أن جاءك رجل وقال لك انه شاعر ،ولم يخطر ببالك أن الناس يتمايزون بالمواهب ، ونبهك إلى وجود قضاة ومناطقة ومتكلمين وصناع ، وهكذا مد لك بصيرتك ومجال رؤيتك ، دفعك لكي تخيره مكان نومه ، فاختار أن ينام معك ، لم تعجبك هذه الجرأة ، لكنك طمعت بقصيدة منه ، فلم يبخل عليك ، تسامرتما طويلا ، إلى أن قال لك ؛ ما رأيك برجل طويل اسمر سمين ، أين يمكن أن تضعه؟ لم يخطر ببالك أن لكل إنسان أوصافا متعددة ، وان كل فرد يختلف عن الآخر بما يملكه من صفات خَلْقيّة وخُلقية ، فأفضى بك إلى أحد أمرين ، إما أن تجعل لكل نزيل غرفة ، أو أن تعتبرهم أنسانا واحدا .
أما شهرزاد ، فقد جعلتني صنوك اللدود ، أبتلى بك ردحا من الزمن ، في كل ليلة تجمعنا مغامرة ، في الحارات المتجاورة في بغداد ، ثم المراكب والصيد البعيد ، مخاوف الغطس وفرحه ، نركب معا سفن الآمال إلى شواطئ اللؤلؤ والمرجان ، نبحر صيادين إلى حيث يختلط الشمال بالجنوب ، وحينما تجتاحنا العواصف والأمواج ، يغم علينا ، كأننا لم نزل في الأرحام ، يأتينا عفريت من أجواز الفضاء ، لا ادري ، ربما من أعماق البحر ، يعرض علينا النجاة ، بمساعدة مشروطة ، مطلبه أن ننفذ له ما يريد ، كانت النجاة اكبر من أي شرط ، لم يكن بوسعي الموافقة ، ولا كان بوسعي الرفض ، لكنك لم تكن مترددا مثلي ، وافقت ، ولم يأخذ ميثاقا عليك ، واعتبرني موافقا بالتبعية ، فأنقذنا ودلنا على مصائد اللؤلؤ ، هناك ، انزلنا مراسينا ، توقفنا ، وكان دوري ، خلعت ثيابي وشددت الحبل إلى وسطي ، أخذت نفسا عميقا ثم قفزت ، وجدت المحار كثيرا ، يصطف الؤلؤ فيه كالاسنان ، أفصده ، تنفد أنفاسي ، تضعف قواي ، اصعد إلى السطح وآخذ نفسا ، وأطمئنك أن المنطقة لم يرتدها أحد قبلنا ، وان المحار بحجم الخوان ، امتلئ شهيقا ثم أغوص ، اترك لك انتشال المحار الذي الملمـه بالشبكة ، وحينما ترى انك جمعت كنـزا ، تقطع الحبل الذي يصلني بك ، وتمضي ، وتتركني لخوفي وإرهاقي وجوعي ، وخيبة أملي ، تتركني أصارع الليل والموج وحيتان البحر ، لا أستطيع اللحاق بك ولا المكوث حيث أنا ، يظهر لي الدلفين ،امتطيه ، والحق بك ، بل أسبقك الى الشاطئ ، وانتظرك حتى تأتي ، تتفاجأ أني سبقتك ، أرى الجبن في عينيك، لكنك تعاركني بقوة ، أكاد اظفر بك وأقتلك ، لولا الصباح الذي أدرك شهرزاد ، فيمنعني أن أقتلك وانتصر عليك
وفي الليلة التالية ، تجعلني معك مرة أخرى ، فتخدعني كالعادة ، ولكنك لا تنتصر علي، كلانا في صراع دائم ، لعل هذا ما تطمح إليه شهرزاد ، أو لعلها سنة الحياة .