طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (23) :
زعيــم الــروح
اقسم لكم أني لم أكن منافقا ولا ماسح جوخ ، ولم تكن نجاحاتي ولا ترفيعاتي الاستثنائية مطلبا لي في يوم من الأيام، صدقوني ..! فما إن أعيد النظر في تفاصيل الماضي ، حتى أجدني أمام قصة شخص آخر ، اندهش ..، أتفاجأ ..، اردد باستنكار : لا..لا..، لعلني اهذي ، وأكاد اجن ، لأنني لا اصدق أني استعيد قصة حياتي .
صدقوني …، لم اكن يوم نجحت بالثانوية العامة ، إلا واحدا من آلاف الباحثين عن العمل ، أتسول فرصة وظيفيّة أمام الدوائر الحكومية ، اجرب كل الأسلحة لاقتحام تلك الصياصي ، لا اذكر كيف حصلت على عمل كتابي في دائرة إعلامية ، شعرت بقيمة اعتبارية، وكم سررت بمشاعري المترفة ، اثر انتسابي لهذه الفئة اللامعة في المجتمع ، فئة بضاعتها الكلمات ، تنثرها زهرا في الأفراح ، وباقات على المقابر ، إذن فأنا ضمن أناس لهم بكاؤهم وفرحهم الخاص بهم ، انتحل الانتماء إليهم ، فكثيرا ما وصفت بالمثقف ، لأني كنت أقرأ القصص والمجلات ، واكتب رسائل غرامية رائعة ، وأناقش قضايا ادّعي افهمها ، لذلك سرني أن أتعرف إلى الكتّاب والصحفيين والفنانين ، أوخر لهم معاملاتهم ، لعل صداقة تنشأ بيننا ، أحاورهم ، اعرض عليهم محاولاتي ، ويهدونني بعض كتبهم ولوحاتهم ، واعتبرني أحدهم قارئا ، وآخر قال أني مشروع مثقف ، دفعني إلى مغامرة الكتابة ، أرسلت نصف صفحة مع أحد الصحفيين ، فنشرها في بريد القراء ، فطرت فرحا .
اقسم أني لم اكن اطمح إلى غير ذلك ، لكن الحظ اكبر من أن نستوعب حكمته ، حينما أرسلت مقالا بعنوان (زعيم الروح ) ، كانت الفكرة فيه غائمة ، ولا أدري على أي نحو تشكلت، فالنظام السياسي الجديد يرسّخ أركانه منذ سنة أو يزيد ، يحشد حوله الأقلام ، في مباراة صاخبة أو سباق دون مضمار ، فريق يفند مثالب العصر البائد ، وآخر يرسم شكلا خرافيا للنظام الجديد ، قصائد ومقالات وتحقيقات ودراسات تتدفق عبر الإذاعة ، ومن فوق الصحف ، وفي سيل النشرات التعبوية ، طويلة مملوءة بالشتائم والفضائح والمدائح والتعظيم ، هكذا عبّر صحفي بقرف ، وقال برصانة :
_ هذا كلام مبتذل ، مجاني ، جَعَلَتْ للزعيم صفاتٍ لا نهائية ، صفات لا يحتملها إنسان ، لم يرسموا صورة نابضة للزعيم ، بل صورة باهتة بائسة لتمثال بائس.
وتابع الصحفي :
_ الزعيم مستاء من هذه الخربشات ، التي تسيء إلى صورته ، لم يرسمه أحد بملامحَ مميزة ، اوبملامح تجعل منه متفردا عن غيره .
اقسم أني ما كنت اعلم عن هذه الأزمة التي يعيشها الإعلام، والمواجهة التي تعيشها الأسرة الصحفية مع الزعيم ، وما كنت أفكر بإنقاذ هؤلاء البائسين ، حينما كتبت ذات مساء في رأس الصفحة عبارة ( زعيم الروح ) واستعرضت في ذهني ما شاع مسبقا من ألقاب الزعامات ، نسبها الإنقلابيون لأنفسهم ، ( الزعيم الأوحد ) و ( الزعيم الخالد ) و( الزعيم الملهم )و( زعيم الأمة ) ، القاب لا تعني دلالاتها ، فأي الألقاب تبقت ؟ لا ادري كيف خطرت ببالي الروح ، التي هي مغايرة للجسد ، وما دام الموضوع فذلكات فقط ، فلماذا لا يكون (زعيم الروح )؟
أغرتني هذه الفكرة، رحت أفلسفها ، واكتب عن صفة مطلقة تحكم شيئا مطلقا ، خالد يحكم شيئا خالدا ، منطق ذهني محض ، سلطة عاشق تحكم القلب والعقل والجسد , وعرضت هذه الأفكار الفجة _ التي لم تملأ صفحة _على صحفي اعرفه، فقرأها بلا انفعال ، وقال اعد كتابتها ، وأشار إلى بعض الأخطاء النحوية والإملائية ، فأعدت التصحيح ، وناولته إياها، وبعد يومين كان المقال منشورا على الصفحة الأولى ، والعنوان بارز ومؤطر ، ففرحت لذلك كثيرا ، فها هو اسمي يقفز من صفحة بريد القراء إلى الصفحة الأولى ، فأصابتني نشوة ونفحة تفاؤل ، وطموح لأن أبقى بالصدارة ، بل أتشبث بها ، رحت ابحث عن موضوع آخر ، ولكن قبل أن تسعفني القريحة ، وجدتني مدعوا إلى اجتماع في نقابة الصحفيين ، فالزعيم كان قد قرأ المقال ، وأعجب به ، بل رغب بهذه الصفة الفريدة ، وأحب أن تكرس له ، وان يتميز بها وينادى ، عندها وجدت نفسي في مكان هو اقرب إلى الحلم ، بل مثار حسد الجميع واستهجانهم ، ما يعني أنني قد أصبحت ذا حظوة عند الزعيم ، وأن باب المستقبل قد فتح لي .
عاملوني كصاحب مكانة ، وطلبوا مني أن أتوسع في توضيح المفهوم ، لذلك هزني الارتباك، وخلخل المفاهيم في عقلي ، بل لم ادر كيف أطور فكرة عثرت عليها صدفة ، فاستعصى علي الأسلوب وناكفتني الجمل ، فلم يتمخض سهري عن شيء، والمقال الهزيل الذي لفقته ، أرسلته متأخرا علىمضض، ايقنت انه لن ينشر ، وان الومضة التي برقت قد مضت إلى غير رجعة ، ونمت نومَ محبطٍ ، لكني في الصباح فوجئت بمقال مذيّلٍ باسمي ، استغربت وتكلمت مع رئيس التحرير ، فأكد لي انه مقالي ، وشجعني ، وقبلت الخديعة ، لأني قررت أن لا اكتب ، ولا أمارس عملا شاقا كهذا ، لكن في اليوم التالي ، قرأ الناس مقالا ثالثا لم اكتبه ، ورابعا ، وخامسا ،إلى إن استدعاني الزعيم وشكرني ، واسند لي منصبا إعلاميا رفيعا .
لكم أن تعجبوا كما عجبت من غباء رئيس التحرير ، والكتاب الذين نابوا عني ، وجعلوا مني نجما ، ومحظيَّ الزعيم، فقد كانوا أذكى من أن اعرف انهم جعلوني حصان طروادة ، إذ أدخلتهم معي إلى بلاط الزعيم ، لم آسف ، لأنني كنت مدينا لهم أيضا .
كان لا بد لي أن اكتب مقالات أسبوعية ، لأتمكن من أن أتابع مهماتي الإدارية ، ولم يبخل عليّ أيضا رؤساء التحرير بارشيفهم وخبراتهم وأفكارهم بل والكتابة عني ، كانوا يتملقونني في سياق تملقهم للزعيم ، كنت اطرح سياسة دولة اكثر من تقديم رأي خاص ، اقترحت ذات مرة أن تصبح زعامة الروح ايدولوجيا الدولة ، نتميز بها عن بقية الأمم والحضارات ، ودعوت المفكرين والكتاب إلى تبني هذا الاتجاه ، فتحولت الفكرة إلى مشروع وطني ، بدأوا بتقريظ الفكرة، ثم استرسلوا في تفصيلاتها ، فها هو أحد الكتاب يرى الروح إطارا للإنسان ، يتجسد فيها كل ما هو إنساني ، الأخلاق والقيم والجمال والمعاني النبيلة ، وعليه فإن زعامة الروح إنما هي إشرافٌ و قيادةٌ لكل هذه الأشياء وتربية لها، وهذه فلسفة الزعيم وعبقريته الفريدة .
أما كاتب آخر فقد كان ديني النـزعة ، فجعل منه زعيما دينيا ، ليس لدين معين واحد، بل للأديان كافة ، فالدين نزعة روحانية إنسانية ، شمولية ، وهذا بالضرورة سيجعل ايديلوجيا الروح تتخطى الحدود الاقليمية والقومية ،ويتحول الزعيم إلى نبي هدفه الجنس البشري كله .
وكتب ثالث ، وكان فلسفي الفكر ، هيجلي الاتجاه ، فهم الروح على النحو الذي فهمه هيجل ، فالروح يعني وعي الروح الانسانية لذاتها ، وهذا يعني أننا أصبحنا إحدى تجليات الروح العظمى ، بل منتهى التجلي الذي لا تجليَ بعده .
وآخرون ، تكلموا بأفكار لم تصبح سياقات متميزة ، واقتصرت في النهاية على هذه التيارات الثلاثة ، فأفرزت دهاقنةً جددا في الفكر والسياسة والتنظير ، راحوا يسهرون ليل نهار لترسيخ هذه الايديولوجية ونشرها .
وبقدر ما افلت زمام الأمر مني ، وأصبحت عاجزا عن الإحاطة بتفصيلات الأفكار وتشعبها ، بقدر ما أراحني ، وأظهرني رائدا للفكر والسياسة ، أتأمل مستمتعا نمو هذه البذرة التي القيتها ، أو سقطت مني ، وأصبحت غابة متعثكلة، وكأن عصا ساحر قد امتدت لها أو خرجت من قمقم مهجور .
صدقوني … اني ما جلست يوما الى نفسي إلا واستغرب هذا الذي حدث ، بل لا ادري كيف حصلت على كل سلطاتي وامتيازاتي ، لعلي واقع تحت ربقة كابوس مرعب ، او أعيش حلما طويلا قاسيا ، مستديم القلق ، متوتر الأعصاب ، تفزعني كلُّ مفاجأة ، ذلك اني لا اشعر بجدلية ما يحدث ومنطقيته ، فأي قوة تلك التي كانت تدفعني ، تذريني ؟ ولا املك لردها حيلة ، ولا أسيطر عليها أو اكبحها ، لكني كنت أعود لصوفيتي ، استرجع قدريتي بأن الله يهب عدلا كل فرد فرصة امتحانا ، ثم يسلبها منه بلا تخيير .
عشر سنوات وبضعة اشهر ، انقضت قبل أن يطاح يالزعيم ، عندها اعتقلت ككل السياسيين الموالين للزعيم ، بلا تهمة أو محاكمة ، وزجوني في غرفة بلاحمام ، ولكني ككل المعتقلين من وزراء وجنرالات ، سمح لي _كممارسة حضارية _ أن اقرأ جريدة واستمع إلى الراديو ، واطلب حاجاتي الخاصة ، وتزورني زوجتي ، واكتب مذكراتي .
لقد كان انقلابا شاملا ، ضدَّ كل الكوادر التي أحاطت بالزعيم وعملت معه ، وجاءت كوادر أخرى ، لتمحو كل اثر لزعيم الروح ، وتسخر من أيديولوجية الروح بكل ما أوتيت من بذاءة ، وتمحو كل ما سطرناه من مبادئ وأفكار .
كنت انا الهدف الرئيس لكل الانتقادات والاتهامات ، بل حُملت مسؤولية الأخطاء التي ارتكبت بسببي وبسبب غيري ، وطالبوا بمحاكمتي بتهمة الخيانة العظمى ، أدركت وهم يشتمونني ويشتمون الزعيم وايديولوجيا الروح انهم يعيدون قراءة مقالاتي ، سواء في تأبين العصر البائد ، أو تمجيد العهد الجديد، يعيدون منتجتها تحت عناوين جديدة وبأسماء مختلفة .
صدقوني فكم أتألم وأنا أرى تاريخنا يسير على هذا النحو من التناقض والضدّية ، أتألم وأنا اعلم أني كنت مشاركا بهذا التاريخ ، أتألم وأنا لم أزل أتساءل ، لماذا شاعت فكرة سخيفة مرتجلة ، ووجدت من يتبناها ويرسخها ؟ بينما ذوت آراءٌ مبتكرة ، مدعاةٌ للاعتزاز ، واثبت الزمن صدقها وأصالتها ؟ هل الأفكار بصوابها ومنطقيتها ؟ ام بمقدار ما تستجيب لهوى في نفوسنا ؟