طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (24) :
موت في الشرفــة
قبل أن يُقرع جرس الباب، كان يفكر بمعنى التعبئة العامة الذي يتحدث عنه الإعلام ، ويستشعر عجزه الفكري وعدم قدرته على فهم هذه اللغة الاعلامية ، اقفل المذياع ، ومضى نحو الباب يفتحه ، وجد خلفه شرطيا بادره بلطف :
_ أنت……؟
رد بلا انفعال :
_ نعم… أنا هو
استجمع أفكاره واهدأ أعصابه ولملم مشاعره ، وقال وقد لاحظ تردد الشرطي :
_ وهل أنا معتقل ؟
لاحظ الشرطي اسفه وإحباطه :
_ لا… لست معتقلا ، الحاكم الإداري يريد أن يراك .
اخذ نفسا ليُفهم الشرطي انه معتاد على هذا :
_ لا فرق في اللغة .
وجد الشرطي نفسه محرجا فقال موضحا :
_ أنا مخوّل بإبلاغك فقط، تستطيع أن تحضر في الوقت الذي يناسبك
مضى إلى الداخل ، فهل اقتضى التحول الديمقراطي تحولا في اللغة ؟ ارتدى ملابسه على مهل ، استغرق وقتا ، أجاب عن أسئلة زوجته التي جزعت ، أهدأها ، وطمأنها ، وغادر البيت دون أن يتلفّت كثيرا _ كما هو دأبه _ جاهدا إيصال كلماته الأخيرة إلى عياله .
يعرف الحاكم الإداري ، ويعرف شخصيته وتاريخه ، يعرف مبادئه وعقيدته ، يعرفه مذ كان بالحزب ، عنصرا بسيطا تابعا لتنظيمه الإقليمي ، وما كان نشيطا ولا بارزا ، بل عاديا ، كما كان خروجه من الحزب عاديا ، لم يؤبه له ، سيما وان خروجه كان في فترة الانهيار ، ضمن الانسلال الكثيف ، في فترة الركود .
هو الآن في طريقه إلى الحاكم الإداري ، يفكر بهذا الاستدعاء الذي هو ادعى إلى الاستغراب منه إلى الخوف ، فلا نشاط حزبي ولا نقابي ، لا مشاكل ولا أحداث ولا قلاقل تستدعي التحوّط والحذر ، فلماذا إذن هذا الاستدعاء ، والبلاد على شفا حرب ، انهما ليسا أصدقاء كما تنبغي الصداقة والود ، وما كانا على خلاف ونفور ، ولم يسئ إليه يوما ولم يوبخه ، ولم يبخسه حقه ، حتى حينما انسحب من الحزب ليصبح من كبار الإداريين ، لم يتناقشا بالموضوع ، ولم يطلب منه توضيحا ولم يتهمه بالتهم المعتادة ، فقد كان انسحابه في غمرة التدهور الحزبي ، لقد كان ضمن ظاهرة عامة ، لا حالة فردية ، يذكر أن مؤتمرا عقد لمناقشة هذه الظاهرة، قال أحدهم إنه التكتيك ، والنضال لا يكون دائما معارضة ، والمواقف يجب أن تكون مرنة ، وقال آخر إن روح المعارضة لا تلبث طويلا بعد انقضاء الفتوة والشباب ، وما كان يدري أن الشباب هم الذين يمضون ويبقى الشيوخ وحدهم يتحدثون عن التجارب والذكريات ويسهبون في المقولات والتنظيرات ، والمشاريع الحضارية ، والأحلام الصباحية المتفائلة .
وصل المقر ، ولعله لم يفطن أن الدوام قد انتهى ، فالساحة خالية تماما من السيارات والمواطنين ، وكذلك ردهات المبنى ،التي اجتازها إلى مكتبه ، طرق الباب ودخل ، اخفض صوت المذياع الذي يبث الأناشيد الوطنية ونهض مرحبا به من خلف مكتبه الوثير ، كما لم يتوقع كان استقبالا اخويا رائعا ، جُمل كثيرة متتابعة ، تخرج عفو الخاطر ، لذلك هي صمت أو كالصمت ، وان قطعها مراسل بفنجانين من القهوة ، ومع ذلك لم يتبدد الترقب الذي يخيم على الجلسة ، ومحاولة البحث عن مداخل للحديث ، فالحرب قادمة ، وكل التقارير الواردة من وكالات الأنباء تؤكد ذلك ، بل يؤكده المحللون السياسيون والخبراء العسكريون ، كلهم يرونها حربا ، لكنهم يختلفون في تصور سيناريوهاتها ، ذلك انهم يعرفون أن الحرب خدعة ، والقائد الذكي هو الذي لا يعطي لعدوه فرصة الاحتمال الصحيح ، قد يجعلها نسخة من لحروب السابقة في الوقت الذي يجعل عدوه بفكر بغير ذلك .
يمضي المراسل ، ويجلس الاثنان على أريكة مزدوجة، يحاول الحاكم أن يضفي جوا من الألفة ، فالأمور انعكست ، وصار التمهيد الطويل ضرورة ، فقال وهو يقدم له سيجارة فاخرة :
_ أرجو أن لا تعتبر هذه الجلسة رسمية ، لولا ضرورة وجودي الآن هنا ، لجئتك زائرا إلى بيتك.
لم يكن مهتما بالمقدمات الحريرية ، ولا بهذا التواضع المصطنع ، فالمشاعر التي يكابدها كثيرة فقال ليقطع هذا التطويل :
_ شكرا ….
_ أنت تعلم أن الأمر اكثر جديّة مما هو واضح للإعلاميين ، فالتقارير السرية التي يسمح لنا بالاطلاع عليها ، تؤكد أن إسرائيل مصممة على حرب تحطيمية ، ليست حربا موجهة الى القوات العسكرية ، والقواعد الجوية ، والنظام السياسي فحسب ، بل إلى الشعب ، لعلمها انه بعد كل هزيمة بخرج جيل من الهشيم ، اكثر شراسة وعنادا .
يصدقه فيما يقول ، لان نكهة الاقتناع تفوح من جمله المكثفة .
_ لا نريد أن نكرر الأمر المؤلم بغباء ، لا نريد للشعب حينما يفقد قوقعته أن يبدأ بالتحرك العشوائي ، لا يعرف كيف يعيد توازنه ، ويبني نفسه من جديد ،نريده أن يحتمل ويتحرك بذاتية، ويتجاوز واقعه ، في حالتي النصر والهزيمة .
شعر بشيء من الفخر والتأسي ، فتلميذه القديم ، قد اصبح في موقع القرار والمسؤولية ، صار يفكر وفق المنهج الذي علمه إياه ، والأفكار التي لقنها له ، لعله يذكر انه طرح موضوعا مثل هذا او قريبا منه ، في مؤتمر ، وصيغ على شكل مقولة ( فالشعب المفكك الذي لا ينتظم في مؤسسات يسهل تبديده ) و( الشعب غير المسيّس هو الشعب الاضعف ) . فهل هذا ما يقصده؟ اتراه حفظها ويعيد صياغتها كمفهوم خاص ؟ أم التجارب والخبرات هي التي قادته الى هذا المفهوم ؟ أيقول هذا كحزبي قديم أم إداري مسؤول ، أما يزال يذكر أن الحزب قد نص على جعل المجتمع مكونا من مؤسسات متكاملة ، قادرة على المسير الذاتي ؟
لم يدر بعد كيف يصوغ فكرة ما زالت تتبلور في ذهنه :
_ هذا ما يحدث بعد كل حرب مع إسرائيل
_ لهذا يجب أن نتدارك الخطأ ، يجب أن نخلق في الناس روحا جديدة ، ومفاهيم صلبة ، ونعلمهم أن المعركة ليست معركة النظام وحده ، ولن يتغوّل النظام بعد الانتصار ، إنها معركة الشعب ، التي سيخوضها بنفسه ، بمعنى آخر سنعيد تشكيل المجتمع ونبني تماسكه ، انه عمل يحتاج إلى الكثير من التبصر والدراية، وهذا ما أنت قادر عليه ، لأنك الأكثر دراية والأعمق تبصرا ، انك امهر من يخاطب الناس ، ويتعامل معهم ، والأقدر على بث الروح المعنوية ، وتنسيق طاقاتهم .
ما هذا الذي يفيض عليه ؟ والموقف الذي لم يتوقعه ، والمهمات التي توكل إليه ؟ والمفاجأة التي تركته عاجزا عن أي قرار ، لقد كانت أفكاره متطرفة ، ترفض الحكومات المحافظة الأخذ بها ، لكن ما هذا التحول ؟ كيف أصبحت الحكومة تتبنى أفكاره ؟ تبحث له عن دور ، وتوظّفه في مشروعه ، ولا يدري إن تجاوزت أفكاره أم لا . فقال وكأنه يعتذر:
_ لكن الوقت متأخر جدا ، هذا العمل يحتاج إلى سنوات
_ لا بأس ، فالزمن لن يتوقف ، والتاريخ سيظل مستمرا.
لأول مرة يشعر انه عاجز ومحاصر ، وانه فارغ بلا وزن، ولم يعد متميزا ومثيرا ، بل فقد طاقته الحدسية التي يخترق بها حجب المستقبل ، لقد اصبح من المحدودية بقدر يمكّن من الإحاطة به وتسييره ، بل يغدو رجلا من رجالات النظام ، ككل الذين عاب عليهم وانتقد فعلهم وسفه موقفهم ، انه اكثر حيرة وقلقا وإحباطا ، فكم هي الخيارات صعبة ! وكم هو عاجز عن أن يظل رياديا ، يستشرف آفاق المستقبل ، وكم هو عاجز عن قبول المهمة التي تعرض عليه ، وكم هو صعب أن يبقى على الهامش يجتر حكايات الماضي ، والذكريات ، والمقولات التي أصبحت بديهيات .