طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (25) :
الزمن الوطيء
انه مرصد البتاني ، بناية ضخمة يرفرف عليها علمٌ لجامعة الدول العربية ، ومساحات شاسعة من الحدائق المهندسة، تحف بها على المدى غابات بكر من الأرز والصنوبر، وأمام البناية مساحات ممهدة فارغة من السيارات ، وعلى الجانب الآخر أبنية الخدمات ، يقابلها بناية لهيئة الأمم المتحدة، وبعيد عن هذا كله بناية التلسكوب ، تشهق من وسطها عدسة ضخمة ، ومرآة هائلة ، تقبع بوقار ،صامتة مطرقة كما هم العلماء في حالات نشوتهم الذهنية ، وهناك البوابة الرائعة ، الموحية بموطن البتاني في الشرق ، تحمل لافتة من المرمر الأسود المصقول ، مكتوب عليها بخط ديواني جميل ، مرصد البتاني أنشئ عام 1370 هجري الموافق 1950 ميلادي ،
أربعون عالما وخبيرا يجلسون منذ الصباح يقبعون في مدرج ( ابن زهر ) ليسوا في اجتماع علمي ولا مناقشة أكاديمية ، بل لأن المدرج واقع تحت الأرض ، وهو اكثر أمنا من أي مكان آخر، صحيح إن القذائف الإسرائيلية لم تقترب منه بعد ، لكن كل شيء محتمل ، فعزيف المدافع في الساحل يسمع ويعاين ، مرة واحدة اقتربت منهم المعارك قبل سنين ، لكنها لم تجعل أحدا يفكر بالمشكلة، انهم الآن في مأزق ، لا يدرون ما يفعلون ، والأخبار تنبئ أن المعارك محتدمة قي الشقيف والعرقوب وتبنين ومرج عيون ، وتقول أيضا إنها اقتربت من أبواب بيروت .
مرصد البتاني أول الأعمال العربية المشتركة ، أول الأحلام التي راودت جامعة الدول العربية ، أول قرار جماعي لم تؤخره المناكفات والاختلافات العقائدية والولاءات ، أول نظرة نحو المستقبل ، وأول مشروع علمي فذ ، وما كان أسرع ما أُنجزت الدراسات والمخططات ، وأسرع تنفيذها ، وأسرع ما اتفق على هذا الموقع في جنوب لبنان ، موقع بعيد عن الضوضاء والضجيج ، والتلوث البيئي ، مشروع يبنى بخمسين شهرا ، بمساعدة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الآمريكية ، كان مشروعا متكاملا ، طاقات بشرية وعلمية واجهزة وكفاءات ، وكل شيء على ما يرام.
الحرب ، هي الشيء الذي لم يفكر به المهندسون ، ولا خطرت ببال العقلية العربية المتفائلة المتسامحة ، رغم الجيوش السبعة التي رسمت حدود إسرائيل ، والفظائع التي ندبو ها بقصائدهم العصماء ، والشتائم التي كالوها لشذاذ الآفاق ، انهم أمام أمر فاق خيالهم ، هاهو رتل من الدبابات والآليات العسكرية يرى على بعد يسير ، ربما هي في طريقها نحو المرصد .
ماذا ستفعل الآن يا عبد العزيز شنانة ؟ بعد ساعة أو يزيد قد تصل الدبابات مرصدك الذي تديره منذ زمن ، ،لقد اتصلت مع الأمين العام لجامعة الدول العربية في تونس ، وجاءك الجواب برقيا أن المجلس سينعقد ، وسيتخذ القرار المناسب ، ( إذن لن يكون هناك قرار ) هكذا قلتها بلهجتك الجزائرية المميزة ، ولا بد لك الآن من التصرف ، متجاوزا حدود الصلاحيات المخولة لك ، لا بد لك من إنقاذ أشياء ثلاثة ، العلماء فالأجهزة فالأبحاث ، هكذا هي مترتبة في ذهنك حسب الأهمية .
_ لو كنا فريقا رياضيا ، أو كان مرصدنا موقعا سياحيا أو اثريا أو مركزا إعلاميا لوجدنا من يهتم بنا .
هكذا يتفجع الدكتور عبد العزيز شنانة ، يمتح قولا من كبد مقرّحة ، فقد ترك مستقبله العلمي في فرنسا ، وجاء إلى هذا المرصد، عله يقدم شيئا ، لكنه منذ عشرين سنة لم يفعل ما يعتز به، فمن قتل الطموحات الكبيرة فيك ؟ هل تشعر انك تعمل عملا رفاهيا ؟ هل أنت بحاجة إلى اهتمام اكثر بأبحاثك ومكتشفاتك ؟ ونظرة جدية لمهماتك العلمية ؟ فمن يريحك ويعمل على إلغائه وبيعه بالمزاد العلني ، ويسرّح هؤلاء العلماء المعتقلين هنا ، ربما لا يريد أحد أن يكون قراره رصاصة الرحمة، ربما أن المرصد لا يخص دولة بعينها ، لتفخر به وتطوره وتحميه ، صحيح أن حفل الإفتتاح شهده ملوك ورؤساء الدول العربية ؛ الملك فاروق ورياض الصلح ونوري السعيد وعبد الرحمن عزام وغيرهم ، إلا ان واحدا من هؤلاء لم يكرر الزيارة، ولم يجد فيه إنجازا حضاريا يفخر به، كما أن المجلات العلمية لم تتابع نشاطاته .
للعلماء هنا معاناتهم الخاصة بهم ، ذلك انهم يرون قيمتهم فيما يكتشفون من معلومات ، لا بمكاتبهم الفخمة ، انهم يتساءلون بمرارة عن دورهم الحضاري ، هل هم رواد لا يكذبون أهلهم أم سدنة في رحاب السياسيين ؟ هل المرصد جزء من السياسة أم أداة لها ؟ أتراها اهتمامات السياسيين ابعد مدى من آفاق الكون الذي يجوبونه ، واكبر من الأجرام ودوران الأفلاك التي يقيسونها ؟ أم أن الإصلاحات السياسية وترسيخ الأنظمة قد استهلكت كل القدرات العقلية ؟ فما عاد لنا متسع لأن نعلم عن الرياح والجفاف والانفجارات الشمسية وتلوث البيئة وطبقة الأوزون ؟
يعاود الدكتور عبد العزيز الاتصال بمقر الجامعة العربية ، يخبرهم باقتراب المعارك من المرصد ، وان الخطر صار يتهدد العلماء والأجهزة والأبحاث ، لابد من عمل ما قبل أن تدخل المدرعات حرم المرصد ، لا بد من عمل لمنع هذه الكارثة ، انتظر الدكتور دهرا بجانب التلكس ، الذي بصق برقية مقتضبة ( انتظروا انعقاد مجلس الجامعة ) إذن سيتصرف الدكتور كما هو دأبه أن يتصرف منذ عقود ، يتصل بالمراصد العلمية المماثلة، يجمع التبرعات من مصادر شتّى يرسخ مكانة المرصد العلمية بين أقرانه ، لذلك لن يجاري العالم العربي سكوته وخذلانه ، فها هو رتل من الدبابات قادم نحو الموقع ، بعد ساعة أو اقل ستجوس الدبابات والعربات العسكرية الساحات، ويتدفق الجنود في الأرجاء ، ويقتحمون الأمكنة ، ويصبح العلماء جميعهم ؟ أسرى أو في حكم الأسرى
لأول مرة يجد الدكتور نفسه في غير موقعه ، ينوب عن غيره في حماية العلماء والأجهزة والأبحاث ، أرسل أربعة ليحولوا دون اقتحام الجنود للمبنى ، ويمنعوا قدر الإمكان العبث والتخريب المتعمد ، وأرسل مجموعة أخرى لإخفاء الأبحاث والملفات ، وجلس مع الباقين يفكرون بقضايا الأمن وباحتمالات الموت والحياة ، فاقترحوا مخاطبة بعض الدول القادرة ، خير من مجلس الجامعة الذي لن ينعقد ، لعلها تبادر إلى عمل ، تخاطب من له سلطة على إسرائيل ، فاتصلوا مع ثلاث عشرة دولة ، ردت أربع منها ، الأولى خاطبت الولايات المتحدة الأمريكية ، والثانية ناشدت الأمم المتحدة ، والثالثة رفعت الأمر إلى فخامة الزعيم الذي سيدرس الأمر بجدية ، ورابعة قالت زودونا بمطالب محددة .
ها هو هدير الدبابات يسمع بعنف ، وطلقات تـئزّ في السماء، وقنابل دخانية وصوتية تنفجر في الساحات ، وقنوط يتدفق إلى الصدور ، يلوذ كل واحد بدولته مستنجدا ، كأن تلك الدول لا تعلم أن لها في هذا المرصد علماء، خاطبوا عشرين وزارة خارجية، وأجيبوا على الفور ببرقيات كأنها معدة ؛( اطمئنوا ، ستكونون بخير ، سنعمل على ضمان سلامتكم ).
وصلت الأجوبة المطمئنة والدبابات التي انتشرت باستعراضية وقحة في الأركان ، تقيأت الكثير من الجنود الذين يطلقون النار ابتهاجا او إرهابا ، فماذا ستفعل الآن يا دكتور عبد العزيز ؟ لماذا غاب عنك الاتصال مع مراقبي الهدنة ، فهم قريبون منك ، ولعلهم يعانون ما تعانيه ، لعلهم يكونون وسيط تفاهم .
يرفع الدكتور السماعة ويدير القرص ، ويسمع من الطرف الآخر:
_ لا ادري إن كنا أيضا أسرى أو معتقلين !!
_ هيئوا أنفسكم الآن يا معشر العلماء ، فربما تنقلون إلى معتقل أنصار
قالها الدكتور عبد العزيز بعد أن انزل السماعة ، وتابع بعد أن غص قليلا:
_ لا تفرطوا بمشاعر القهر ، فأنتم ملومون بقدر غير قليل