طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (26) :
زاويــة اليقين
منذ عشرين عاما وأنت يا راضي جبارة هنا ، ضمن جدران أربعة وزنازين كثيرة ،محاط بأسلاك شائكة وجنود يشهرون السلاح ، عشرون عاما من المعاناة والقهر والألم والإحباط ، أدمنت السجن ، وتيبّست مفاصلك ، وخلدت عضلاتك إلى السكون ، خمد البركان ، وماتت ملايين الخلايا العصبية ، ومثلها عشرات المفاهيم والأفكار والمبادئ التي خبت وتراجعت .
لم تكن قد بلغت العشرين حينما اعتقلوك ، وحكموا عليك بخمسة وعشرين عاما ، عندها وقفت معتزا ، لأنك كنت تراها خمسة وعشرين وساما ، وترى الأحكام حبرا على ورق ، فأنى لإسرائيل أن تبقى هذه المدة ، لعل القدر يدبر لها سخرية ، كنت رابط الجأش قويا تعكس كبرياء أمة مترامية ، وتاريخا من البطولات ، تخرج من جلدك ، وتتقمص شخصية تاريخية ، تحتمل الإستجواب والتعذيب والإذلال ، بما يفوق الاحتمال البشري ، تُرهبُ به قضاتك وسجانيك ، كانوا عاجزين عن فهم هذا السلوك ، يقولون انه هوس الانتحار أو جنون الموت .
وهذه ظنونك لم تخب ، فالسماعة المعلقة في الردهة ، تخبرك أن عملية عسكرية على مواقع (المخربين) بـ(الكرامة)، وتفهم أن معركة كبيرة يخوضها لواء من الجيش الأسرائيلي في الأغوار ، شيء ما يكبر في داخلك ، تنتشي وتتسع البهجة في صدرك ، وخاصة حينما أُخبرت عن صمود رائع بما لم تخبرك به هذه السماعة اللعينة .
إن طال الإنتظار فلا بأس يا راضي ، فالأمر ليس بهذه البساطة هاهي العمليات الفدائية عبر النهر تشكل حربا حقيقية متصلة ، كما تشكل حرب الاستنـزاف عبر قناة السويس معادلا استراتيجيا ، انه واقع اقرب إلى الصورة التي رسمتها في مخيلتك ، هكذا يجب أن تُناش إسرائيل كل يوم ، اذن فلست الآن وحيدا، هاهي جيوش عراقية وسعودية وتونسية ومغربية ترابط كالطوق مع دول المواجهة ، وها أنت يا إسرائيل (واوي بلع منجل )، تمشين إلى حتفك كالمنومة، فهذه الأمة كالبحر المحيط ، ما دخل جوفه شيء إلا ابتلعه ،والزنزانة أصبحت محطة انتظار .
ولكنك اليوم تشعر بالأسى، وترى الزنزانة اكثر ضيقا ، والحيطان اكثر لزوجة ، صلفة قاسية ، تصفعك الوحدة والاغتراب ، حينما سمعت أن جمال عبد الناصر قد مات ، لأول مرة تشعر بثقل الانتظار ، وتصبرك يفلت منك ، وأعصابك تخونك ، ودموعك تنبجس حارة ، فلماذا هذا الرحيل المبكر يا جمال..؟
صقيع الزنزانة يمتد إلى عظامك ، يهزك ، ترتعد تؤلمك مفاصلك وأمعاؤك ، حتى وأنت تقنع نفسك بان مسيرة الوحدة لا يقودها شخص واحد ، كما أن تحرير فلسطين ليس منوطا بالفلسطينيين وحدهم بل هي مشكلة الحضارة العربية ، يؤلمك الجلوس وأنت تعيد ترتيب الخيوط وترى على هديها المستقبل ، فكل شيء توقف ، حرب الاستنزاف والعمليات الفدائية ، وابتدأت المغازلة الشبقة للصلح والسلام ، واستجداء الحماية والتمسح لامريكا ، صار اكثر ايقاعا ، والزيارات الأسبوعية صارت شهرية ، وأصبحت اكثر ضيقا بالزمن ، وبِتَّ تعاني آلام القرحة والمفاصل .
وفجأة تستغفر الله على هذه الظنون التي غشيتك ، فأمتك العربية التي آمنت بها لم تخيب ظنك ، هاهم يعبرون السويس ويقتحمون الجولان ، ويتقدمون في سيناء ، يتوقفون ولا تدري لماذا ، لعله التكتيك ، لكن رغم ذلك تغادرك القرحة والأوجاع ، وتتسع الزنزانة وتزايلها الرطوبة ، وتشعر انك قاب قوسين من الخروج ، لا باس ، فقد احتملتَ كل هذه السنوات الست ، جلسة القرفصاء ، والأسلاك الشائكة المكهربة ، فلا تزعجنّك مفاوضات الكيلو 101 ، وزيارات كيسنجر المكوكية ، وغالِب السكري الذي يغشاك ضيفا بعد القرحة ، فها قد غدت حركتك قليلة ، ورغبتك بالبول والشرب شديدة ، والجهاز اللعين الذي يخبرك عن الصلح والسلام والمفاوضات المباشرة ، وتخبرك عن حصار تل الزعتر، والكلام الحيادي الفاتر من أفواه العرب ، أحقا هذا هو الشعب الذي تئن فيه الشام لما يحل في ذرى الأهرام؟ لعلها الفاجعة يا راضي ، التي جلبت لك الضغط ، وجعلتك كمن يتفجر من الداخل .
ورغم طنين أذنيك الذي يسد عليك صوت السماعة اللعينة ، فإنك تسمع عن زيارة السادات للقدس، وعن ابتذال وتنازلات وشتائم كثيرة لهذه الأمة ، وسخرية بها ، وأنخاب وقبلات ، وشيء اسمه كامب ديفد ، وضيف جديد يحل في مفاصلك ، يجعلك عاجزا ، تسترحم سجانيك لكي يأتوك بمبولة وإبريق ماء ، و اعزلَ تقاتل في كل الجبهات ، الأمراض والوحدة والبرودة وصلف السجانين ، ترمم المفاهيم التي انهارت داخلك ، وتحاول أن تجد بعض العزاء فيما يرويه السجناء الجدد ، أن آلامك لا تقل عن ألام غيرك في الخارج ، فهل بدأت الآن تفقد مبرر وجودك ؟ وانك في المكان الخطأ ؟ وانك لم تفعل شيئا ذا قيمة ؟ وانك استهلكت نفسك ولم تبلغ الثلاثين بعد ؟ وجسمك يذوي بين أربعة حيطان كالمجرمين واللصوص ؟
أيسرُّك أن تسمع عن ارض فتح في الجنوب ؟ و عجز إسرائيل عن مواجهة كاتيوشا العرقوب ؟ زملاؤك يدركون أنها لم تـعد لك توازنك ، لأنك تعلم انه جهد معزول ، ولا بد له أن يستهلك ، فلا عملَ مجديا خارج الجهد العربي الموحد ، إذن… تعزَّ بالمنطق والتاريخ ، واعرف أن التاريخ مراحل ، ولا تبتئس ، ولا تجلد ذاتك ، أتراك لو كنت اقل إخلاصا لمبادئك واقل اكتراثا بغيرك ؟ أكنت اسعد حالا واقل تألما …؟ هاهو الصداع يتسلل إلى مؤخرة رأسك ، ويعاودك الكرة تلو الكرة _ وما عادت تنفع حبوب الأسبرين _ حتى طغى على آلام القرحة والمفاصل ، وصار يمنحك نوبة من الخدر ، يتركك كالنائم ، قد تبول فيها على نفسك .
وبيروت …، لم يدمرها الحصار فقط ، بل قوضت كل ما عشت عليه من مفاهيم وقيم ، وتركتك مفرغ النفس والروح ، تحمل عملة لا رصيد لها ، ولعلها أقسى مرحلة ، بل أعتى على النفس من التجويع والتعذيب والتشريد ، فالمكتنـز بالمبادئ هو الأقوى والأصلب ، وأنت الآن يا راضي نافذ المخزون ، فهل ضعفت قدرتك على مقاومة الأمراض والمتاعب والرطوبة ؟ وقدرتك على مقاومة السموم التي تبثها هذه السماعة اللعينة ؟ هاأنت قد أصبحت تبول على نفسك ، ويدك اليسرى صارت ترتجف ، ورجلاك ما عادتا تحملانك بقوة ، كنت سابقا تسحبهما لكي لا يفلت منهما الشبشب المهترئ ، واليوم لا تقوى على رفعهما ، لعلك لم تعد تسيطر على وظائفك البيولوجية والعصبية ، ولم تبلغ الأربعين بعد ، انك تتمنى الموت كما لم تتمن من قبل ، فأي هدف تعيش الآن من اجله ؟
هاهم بعد عشرين سنة وثلاثة اشهر وخمسة أيام ، يفرجون عنك ، يعطونك ملابس جديدة ، ويحلقون لك ذقنك ، وتستحم بماء ساخن ، وتودع الرفاق ، ويبكون على كتفك وأنت تبكي كالأطفال ، يختلط النشيج بالكلام ، وتخرج وحيدا ،فأمك ماتت منذ سنة ، وأبوك مات من بضع سنين ، وأخوك مغترب في أمريكا ، وأختك متزوجة في الكويت ، ولم يزرك من شهور عديدة أحد ، ولا تعرف من الأجيال الجديدة أحدا ، تخرج وتعلم أن العالم ليس بأوسع من زنزانة ، تخرج بلا مال ولا صحة ولا أمل ، تعلم أن المنظمة قد تصرف لك مرتبا ، لكن من أين تأتي بالرغبة المفقودة للحياة؟
لا تحزن يا راضي ، فها هو جيش من الفتيان والشباب ، ينتظرونك خلف بوابة السجن ، يعرفونك ، ويعرّفونك على انفسهم ، تحاول وسعك استيعاب ما يجري ، فهذه أسماء متشابهة ، ووجوه متشابهة يجري بها دم العائلة ، اثنان سميا براضي تيمنا وتخليدا لك ، نطقا اسميهما باعتزاز ، وثالث اسمه رضا ، شيء يشعرك بالدفء والحنان ، تغمرك السعادة ، مع سيل القبلات ، والسواعد التي لا تأبه لضعف ضلوعك ، أما الكلمات الواثقة الجريئة فتعيد الدم إلى عروقك ، رغم انك لم تستوعب معانيها ، ولم تتعرف بعد لمفاهيمهم التي ينسجون منها أهدافهم ، يتكلمون عن التحدي السافر في الحارات والشوارع ، وعن الحجارة والمقاليع ، وعن العصي والعصيان ، وعن هذه الأجساد التي أصبحت سلاحا ، وعن الأرواح التي غدت طاقة ، فهل عاودك الصداع والدوار؟ أم انك بين النوم والإستيقاظ ؟ لعل الزمان قد دار بك دورته ؟ لعلك تولد من جديد ؟ وتغادرك القرحة والسكري والضغط وآلام المفاصل .