طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (26) : رجل خارج العرف
انه سعد الله سعد الله ،ليس مميزا بين الناس بشيء ، فلا هو من عائلة كبيرة ، ولا يتسنم منصبا حكوميا رفيعا ، وليس وجيها ولا متنفذا ولا صاحب مهنة ، كما انه ليس كاتبا ولا صحفيا ولا فنانا ، ومع ذلك تعتقد أنك رأيته أو التقيت به ، يقبع في مؤخرة ذاكرتك ، كحلم أو ظل لأي شخص ، ربما لأنه يشبه كثيرا من الناس أو هو القاسم المشترك لهم جميعا .
سعد الله سعد الله ، وهذا هو اسمه الحقيقي ، لم يورثه والده إلا الاسم فقط، إذ ولد بعد موت والده بشهر ، فأسموه سعد الله تخليدا لذكرى أبيه ، وهذا اليتم المبكر ساعد في تشكيل شخصيته ، إذ اقتضته الظروف أن يبدأ دوما من الصفر ، فلم يحظ بمعلومات وتجارب مستخلصة ، ولم يلقن بأفكار جاهزة ، لذلك حينما يجد متعة كبيرة في تطوير أفكاره وبلورتها ، كان يراه الناس ساذجا وسخيفا، وكأنه يطل على الدنيا لأول مرة .
وبما انه كذلك ، فإنه لم يدر كيف خطرت له فكرة راح يعالجها ، كي تخرج إلى النور ،فهو ككل أصحاب الأفكار يجهلون كيف تنبثق من رؤوسهم ، كأنها تنبجس من العدم ، لذلك لا يدري كيف يسلكها في منظومة منطقية ، لتبدو متماسكة مقبولة .
فجأة ، يجد سعد الله نفسه مندفعا نحو إنشاء جمعية لرعاية حقوق المواطن ، بالطبع لم يفكر بالنظام الداخلي وحق الانتساب والعضوية وإنشاء الفروع ، بل ذهب يعرض فكرته على معارفه وأصحابه ، فوجدوها _ على غير ما توقع _ فكرة مدهشة ، بل هي ضرورة لا بد منها ، إذ نبهت كل شخص إلى حقوقه المنقوصة ، وراح يعدد الحقوق التي لا يتمتع بها ، السياسية والاجتماعية والشخصية والإنسانية ، أصبحت الفكرة إطارا عاما ، يلونها كل شخص بما يريد .
ولأن سعد الله معروف فقط بين عدد محدود من الناس ، لكن الذين أعجبتهم الفكرة ، راحوا يشيعونها ، وراح كل فرد يتطلع إلى صيانة حقوقه ، وتتسع الدوائر وتتداخل ، حتى وجد من يدعوه إلى هذه الجمعية ، مما أبهجه كثيرا ، ودفعه لكي يمضي بحماس لتأسيس الجمعية ، دون أن يعلم أن الجمعيات والنوادي لا تقوم إلا بموافقة الجهات المعنية في وزارة الداخلية.
ولأن سعد الله ليس من أصحاب السوابق ولا النوايا السيئة ، ولا ينشد جمعية سرية غير قانونية ، فقد توجه طالبا السماح له بإنشاء الجمعية حسب القانون ، لكن هذه السذاجة المفرطة أثارت الكثير من التساؤلات ، ذلك أنها تشير فيما تشير إليه أن حقوق المواطن غير مصونة ، وهذا تلميح مشين ، عدا عن أهدافها المبهمة ، التي قد تُفهم من زوايا كثيرة ، تمكنها من أن تدس انفها بقضايا متعددة ، إنها فكرة خطيرة ، تشف عن عقلية تآمرية ، يجب أن تُؤخذ بالحسبان
ولأن سعد الله غير معروف في النشاطات المشبوهة ، وان التقارير الأولية تفيد بأنه بسيط ساذج ، لا يمكن أن يكون متآمرا ، وانه شخصية غير جماهيرية ، ولا يملك القدرة الكلامية اللازمة للزعماء ، فمن التعسف أن يُزج بالسجن ريثما تثبت براءته ، كما لا يمكن أيضا أن تترك له حريته ، يفعل ما يشاء ، لذلك فقد استدعي له اختصاصيٌ بعلم النفس والمجتمع ، عله يقدر على إقناعه بان فكرته ليست سوى هذيان محض .
ولأن سعد الله لم يدر إن كان معتقلا يتم التحقيق معه بشكل حضاريّ ، أم مريضا يراد له الشفاء ، فقد ارتبك فكريا ، جعلت الإختصاصي يوقن انه أمام حالة مرضية ، سهلة الفهم وسهلة المعالجة والتقويم ، وخاصة بعد أن استطاع في جلسة واحدة أن يحصر أفكار سعد الله ومعتقداته ومرجعية تفكيره ، ويضعه في عداد المهووسين الذين يطمحون إلى تغيير العالم اعتمادا على البديهيات العامة ، ومن أولئك الرهط الذين يشعرون بنداء داخلي ، بأنهم مكلفون برسالة، لا تتفق مع قدراتهم ومؤهلاتهم ، لذلك كان على عالم الاجتماع ،أن يصمم خطة العلاج ، التي تعتمد على أن يهدم سعد الله معتقداته بنفسه ، فذهب به إلى المحاكم حيث القضاة والمحامون والمتخاصمون يحتكمون إلى القانون ، ليفهمه كم هي الحقوق مصانة ، أما في دور النشر والصحف والمجلات والمكتبات فقد اطلعه على أنماط من الآراء المتباينة ، ليعرف أن حق المواطن مصان بان يكتب ويقرأ ويفكر بما يشاء ، ومضى به إلى الأسواق التجارية ليشهد السلع المعروضة ، التي تلبّي كل الرغبات المحتملة للإنسان ، الضروري منها والرفاهي التافه ، ولم يكتف بذلك فقط بل لفت نظره للمؤسسات الترفيهية والسياحية ، التي تظهر الترف الحضاري والمطالب فوق العادية
لم يكن سعد الله ساذجا كي لا يدرك أن هذا تبسيط للأغبياء ، وان تعداد الحقوق المصونة لا ينفي وجود حقوق منتهكة ، لم يدر كيف صاغ أفكاره هذه ، فهو غير بليغ ولا ماهر بسبك الجمل ، كما لو كان طفولي التفكير بدائي التعبير ، لكن اختصاصي علم النفس الاجتماع ، المحيط بشخصية سعد الله ، قال له :
_ معنى الحق ليس ثابتا ، لا في الزمان ولا المكان ، فما هو متعارف عليه كحق ، يصبح غير ذلك في زمان ومكان مختلفين ، والعكس جائز أيضا ، بل إن مجال الحقوق يتسع في زمن ويضيق في زمن آخر .
لكن سعد الله الذي يرى أن الاختصاصي قد شرع بجره بعيدا عن فكرته ،فإنه أيضا _ وبدون أن يدري _ اخذ ينبه ذهنه لقضايا أخرى ، فقال:
_ ألا يحق لي أن أنشئ جمعية لرعاية حقوق المواطن ؟
هنا يصبح الاختصاصي الاجتماعي اكثر ضيقا ، من هذه المحدودية الضيقة للأفكار ، ويكاد زمام المبادرة أن يفلت منه ، لولا ثقته المطلقة بأن منهجه العلمي قادر على معالجة هذه الحالة ، لكن أسئلة سعد الله ترجعه مرة أخرى إلى البداية
_ لماذا تصر على إقناعي ما دمت ممنوعا من إنشاء جمعية؟
مثل هذه الأسئلة البديهية ، تفجأ العقل بصدقها ووضوحها ، فيقف عاجزا عن دحضها ، إذن لا بد أن يجر سعد الله إلى مواقع أخرى يصرعه بها ، فراح يطرح عليه أسئلة على نمط أسئلته الساذجة ، فقال له :
_ عد لي الحقوق التي أنت معني برعايتها ؟
كان سعد الله قد سئم جدا من هذا الحصار الذي يفرضه عليه ، ولعبة الكراسي الموسيقية التي يطارده بها ، وهذا العبث المقصود بأفكاره ومعتقداته فقال بحدة :
_ حقي بان تكون لي أفكاري ومعتقداتي التي أعيش بها
وقبل أن يعثر العالم على جواب أردف سعد الله محتجا :
_ لماذا ترى من حقك أن تحجّم أفكاري وتقيمها ؟