طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (27) :
عناء اليوم الأخـــير
في القرية ظاهرة عجيبة ، لعلها معجزة ، كل يفكر بها ، يقلّبها على مفاهيمه وقواعد تفكيره،وبديهيات معارفه ، وقدرته على الفهم والتحليل ، فما فعله محمد صافي اليوم ، وما حدث له لا يمكن أن يكون شيئا عاديا .
بقول البقال أبو حسن :
[ بعد أن فتحت الدكان بقليل ، جاء محمد صافي ، دخل الدكان متأنقا بثياب نظيفة ، حليق الذقن ، لم يكن مستغربا أن يُرى هكذا في الصباح الباكر ، فهو نشيط دائما لكنه بدا وكأنه سينجز أمورا كثيرة مستعجلة ، سلم وقال وهو يمد يده إلى جيبه :
_ كم حسابي يا أبا حسن ؟
لم يكن ذاك المبلغ الذي يستحق كل هذا التبكير والإصرار فقلت استمهله :
_ لماذا هذه العجلة ؟ تفضل واجلس .
قال وهو لا ينوي الجلوس :
_ أنا سوف أموت اليوم !
قلت في نفسي ؛ ربما يقصد القول بان الدنيا فيها موت وحياة ، فما كان وجهه يوحي بالمرض ، فأردفت بالعبارة التقليدية :
_ الأعمار بيد الله .
_ هذا صحيح ، ولكنّي أريد أن اخرج من الدنيا بلا ديون .
لم اكن في حالة تجعلني راغبا بمناقشته ، ذلك أني قدرت انه حلم حلما مزعجا، وانه من الناس الذين يتطيرون بالأحلام، أخرجت الدفتر ، فكان المبلغ ثلاثة دنانير ونصف وبضعة قروش ، أعطاني المبلغ ، وصافحني بحرارة ، وشد على يدي وقال كأنه يتوسل :
_ سامحني ، سامحني من قلبك ، إن كنت قد أخطأت معك
شعرت بإيمانه العميق فيما يعتقد ، فقلت اقطع الحديث:
_ وعلى أي شيء أسامحك ؟
وما كان مهتما بإقناعي أيضا ، هز يدي مرة أخرى , ومضى .]
ويضيف أبو حسن بذهول [ شيء يشبه الحلم ، يشبه المعجزة ، فما إن صلينا العصر ، حتى ذهبنا نحفر له قبرا ].
وان كانت صدمة الموت ادعى للاستذكار، فإنهم الآن اكثر شغفا بتسجيل اللحظات الأخيرة معه ، فهذا هو الناطور (زيدان) يقول التقيت محمد صافي ، فسألني عن مروّح أبو جبر ، فقلت له لا ادري ،ثم اردفت؛ ربما يكون في مارس قعدان ، حيث كنت أتوقع ، ورافقته إلى هناك ، فبادره حينما وصله :
_ الأرض التي بعتك إياها ، لم نسجلها في سجل الأراضي .
استراح مروح أبو جبر على حجر وقال وهو يمسح عرقه:
_ الأرض ارض الله يا أبا صافي .
ربما ضاق من استخفافه بالأمر فقال بحزم
_ أنا وإياك اليوم متفاهمان ، لا ندري كيف سيتفاهم أولادنا مستقبلا، إذ لابد أن نسجلها اليوم.
قاطعه وفيه شيء من الاستنكار الغريب:
_ أنا لا أتصور انك قادم لهذا الأمر ، فهل تظن أني سأترك العمل واذهب معك إلى المدينـة ؟ يكفي أن تذكرني عند صلاة المغرب ، فنتفق على يوم ، لقد اشتريتها منذ سنتين، فما معنى أن نسجلها اليوم ؟
_ يا مروّح ، أنا سأموت اليوم ، ومن الممكن أن تموت معي ،أو بعدي بساعة أو ساعتين
انتفض مروح قائلا :
_ فال الله ولا فألك
لجم انفعاله وتابع بأعصاب رخيّة :
_ فداك الأرض يا أبا صافي ، لا حاجة لي بها بعدك .
لم يكترث لهذه المجاملة فقال يخاطبني :
_ اشهد يا زيدان أن الأرض مبيعة لمروح أبو جبر ، وليس لي في ذمته شيء .
ورجع محمد صافي ، ويقي مروح يقلب التربة
وابنته حليمة ، المتزوجة ، ذهب يدعوها قائلا :
_ تفضلي عندنا للغداء ، يجب أن نتغدى معا ، يجب أن أراكم لآخر مرة اليوم .
لم تتنبه إلى جملته الأخيرة بل قالت :
_ زوجي ليس هنا ، يجب أن اخبره مسبقا ، لا أستطيع أن اخرج دون إذن منه .
رغم أن هذا عذر وجيه عنده ، لكنه أمرها أن تلبس ، وتأتي بأسرع وقت ممكن
وحينما كان يخرج رأى سلفتها فوزية واقفة بباب غرفتها ، ألقى عليها التحية وقال:
_ ستلدين اليوم مولودا ذكرا ، وسيكون مباركا .
ابتسمت فوزية وتفاءلت، ولم تنتبه لكلمة اليوم ، لأنها لم تكن على وشك الوضع ، فقد أكملت الأشهر السبعة منذ أيام.
أما عائلته ، فما يفتأون يتكلمون بكثير من الدهشة والأسى ، كيف جمعهم ، وجلسوا جلسة عائلية ، وطلب من زوجته أن تطبخ له أكلته المفضلة ، وطلب من ولده أن لا يذهب إلى عمله في محطة الوقود ، جلسوا وكأنهم يمارسون طقوسا ، يطعمهم ويشجعهم على الأكل ، وبعدها وزع تركته بينهم ، الأراضي المزروعة وغير المزروعة ، بقراته الثلاث ، وعنـزاته العشر ، ودجاجاته الثلاثين ، وما يملكه من ذهب ونقود ، وكانوا يسترضونه حائرين، وأخيرا حدد مقدار وصيته ، وما يجب أن يكون للجامع والمدرسة والفقراء ، واخذ منهم عهدا أن لا يبكوا كثيرا ، وانهم راضون بما قسمه بينهم ، وان يظلوا كما رباهم محافظين على الصوم والصلاة ، متمسكين بمبادئ الإسلام وتعاليمه ، ثم دخل الحمام ، اغتسل وتوضأ وصلى ركعتين ، وعندما تمطى على السرير قال متمتما :
_ إذا أمد الله في عمري إلى العصر ، سأصليه .
وكان قد اشترى كفنه ووضعه بجانبه ، اغمض عينيه ، وما شك أحد بنومه ، ولكن ما إن رُفع أذان العصر حتى انقطع تنفسه ، وبرد جسده .
صاح الشيخ عرفان الصالح عندما علم بالخبر وهو خارج من المسجد :
_الله اكبر ، الله اكبر ، محمد صافي ولي من أولياء الله ، كشف له عن بصيرته ، واعلمه موعد موته ، هذا اختبار من الله ، تقبل الموت كضيف منتظر ، يجب أن نجعل من قبره مزارا ، هذه كرامة في زمن الفسق والفجور ، آمنوا أيها الناس ، انظروا كيف تكون حياة المؤمنين الصالحين !!، وكيف تكون خاتمتهم !! اللهم اغفر لنا وارحمنا واجعلنا من الصالحين .
أما زياد عواد فقال عندما علم بالخبر :
_ هذه مصادفة !
ولم يزد على ذلك ؛ لكن أحد الذين أعجبهم هذا التفسير قال :
_ ربما كان يشعر بضعف في قواه ، ظن انه سيموت ، كان مجرد احتمال ، كان يمكن أن لا يكون هذا الاحتمال صحيحا ، ولكنه كان .
أما آخر فقال كأنه يسخر :
_ ربما انتحر !! ربما يريد أن يجعل من نفسه قديسا ، اعني وليا من أولياء الله الصالحين
وجد الناس انهم أمام ظاهرة كونية فريدة ، قال بعضهم:
_ يجب أن نأخذه إلى طبيب ، يجب أن نعلم سبب الوفاة ، لا بد من شهادة وفاة موقعة من طبيب .
وافق بعضهم على هذا الاقتراح ؛ رغم علمهم أن الناس هنا يدفنون بلا تصريح دفن ، فانتفض أحدهم محتجا :
_ كل إنسان يمرض ، ويتوقع الموت ويهجس به ، لكن أن يجزم ، ويحدده ، فهذا ما نبحث به .
ورفضت هذه الفكرة من آخرين ، انطلاقا من رفض اختبار قدرة الله ، والعبث بقدسية الكرامة ، إنها آية من آيات الله ، للإيمان و الاتعاظ ، لا للبحث والتحليل ، فلم تكن معجزات الأنبياء تخضع يوما للبحث والتحليل ، واكتشاف الأسباب والمسببات ، إنما لتكون دليلا على قدرة الله ووحدانيته.
حالة نادرة ، أن تغدو القرية فيها على هذا النحو من التباين ، ففريق يطالب بالبحث عن الأسباب واكتشاف قوانين جديدة ، لعلمهم بأن النظريات العلمية نتجت عن تحطيم مفاهيم مسبقة ومقدسة ، وفريق ينشد التأمل ، ويرى في الجسد قدسية يجب أن لا تمس.
خيم جوٌّ هستيري ، واقتربوا من الصدام ، فأحدهم لا يقوى على إقناع خصمه ، بل لا أحد معنيٌ بسماع الآخر .
في هذه الساعة ، جاءت الداية أم جميل صائحة :
_ الله اكبر ، الله اكبر
التفتوا إليها وكأن كارثة وقعت ؛ فتابعت :
_ لقد ولدت فوزية مولودا ذكرا ، كما قال محمد صافي،
في صدمة الاستغراب وتوقف الذهن ، هتف زيدان الناطور :
_ إذن يحب إن يكون مروّح أبو جبر قد مات الآن …!!
اشتعلت الأفكار كالبارود ، فجّرتها شرارة واحدة ، انطلقوا مهرولين نحو مارس قعدان ، الذين يؤمنون ، والذين لا يؤمنون بتواتر النبوءات ، انطلقوا مذهولين ، ولم بفطن أحد منهم إلى حمل نقالة أو أدوات إسعاف ، ربما لم يخطر ببالهم أيضا مروح أبو جبر ومصيره .