طريد الظل
مجموعة قصصية منشورة
للقاص والروائي
سعادة عوده ابو عراق
القصة رقم (28) :
المسبــــحة
أرجوك …، إصمت … فأنا أعرف كل ما يدور بخاطرك ، والأسئلة التي تنوي طرحها ، فالصحفيون يشتمّون الأخبار من أبعاد طويلة ، يقتفون أثرها ، أكيد انك قد سمعت عن المسبحة ، مسبحة البسطامي ، ورأيت فيها قضية صحفية مثيرة ، وسبقا إعلاميا فذا ، رغم أنها تراثية ، كان عليك أن تعرفها من الكتب المخطوطة ، أنا اعرف انك لا تقرأ المخطوطات ، بل برقيات وكالات الأنباء .
لا عليك ، فأنا أخرج دائما عن الموضوع ، وعليك أن تعرف ذلك ، لعلك تريد أن تراها ، أن تلتقط صورة ، انظر ، لا تستعجل ، فالعلبة المحفوظة بها قديمة قدم المسبحة ذاتها ، تحتاج إلى أناءة ولطف ، انظر …. ليست مدهشة كما كنت تتوقع ، قديمة تعبق بروائح خاصة ، لونها باهت ، حباتها غير منتظمة ، ولا جيدة الصقل ، مثرمة الحواف ، بها كثير من التلف والتكسير ، هي هكذا ، وهذه ميزتها ، فالمسابح الحديثة لا تملك سحرا ، كما تملك هذه المسبحة، نعم … أقول سحرا ، بالطبع العقلانيون لا يؤمنون بذلك ، ولكني أؤكد لك أنها تملك سحرا ، فجدي الأول (غيث ) الذي تحمل العائلة اسمه ، كان لصا قاطع طريق ، سفاك دماء ، نعم … أقول هذا وأنا في غاية التيقن والافتخار ، هكذا كان جدي (غيثا) _ بركاتك يا سيدي غيث _
قلت إن جدي غيث كان قاطع طريق ، وحدث أن قتل أربعة رجال في قافلة ، هم أصحابها وحماتها ، وساق الجمال المحملة إلى مكان قريب ، وباتت عصابته ، تنتظر الفجر ليقتسموها ، هكذا بات وظهره إلى بعير راقد ، لم يدر حينها انه نائم أو يقظان ، إذ هبط عليه سيدي البسطامي بطلعته البهية، رجف قلبه ، وشعر انه تافه حقير ، ضربه بعصاة كانت معه ، خرج منه شيء كان بداخله ، خرج هذا الشيء وتسرب بدهاليز العتمة ، شعر معها انه أخف وزنا واكثر انتعاشا ، سأله بصوت اقرب إلى الاستعطاف :
_ من أنت يا سيدي ؟
قال بلهجة ملؤها الثقة :
_ البسطامي ..
لم يحر جوابا ، فتش في ذاكرته عن هذا الاسم شعر بخجل شديد ، لكنه لم يشأ ان يمعن في تعذيبه وإحراجه فقال:
_ غدا اسأل عني من يعرفني
عزّ عليه أن يبرحه هذا الطيف ، فقال كأنه يناشده :
_ ماذا تريد مني يا سيدي ؟
_ لقد اختارك الله أن تكون وليا من أوليائه .
كأنه لم يحتمل مثل هذه السخرية ، فلم يضحك ، وقال كالمصدق :
_ ولكني قاطع طريق ، لص قاتل ، قتلت أربعة للتو .
فقال له :
_ لا عليك ، إن الله يغفر الذنوب جميعها ، هاهم الذين أغمدت سيفك فيهم أحياء
لم يدر كيف يصوغ أسئلة كثيرة في رأسه ، فما معنى أن يكون وليا صالحا ؟ ما هي مهمته؟ هل ما يراه حلما أم حقيقة؟ أدرك البسطامي ما يدور بنفسه ، فاستل مسبحة من جيبه وألقاها في حجره وقال :
_ المس الحقيقة بيدك
ثم غاب كأنه ذبالة مصباح تنطفئ و تغيب
واستفاق من غفوته ، ليجد المسبحة حقا في حجره ، تفوح عطرا يعبق بالأجواء ، ما زالت إلى اليوم تبث شذاها المميز ، تلمسها وهو لا يصدق ، نظر إلى الجمال الراقدة ، المحملة ، وكاد أن ينكرها ، لولا بقايا ذكرى عرفته بها ، ذهب إلى الطريق ، حيث تجندل أربعة رجال ، وجدهم نياما ، منهم يعدل رقدته ، ومنهم من قد استفاق لتوه ، لم يشأ أن يكلمهم، شعر انهم يفتقدون جمالهم ، فعاد يقودها إليهم .
طبعا أنت لا تصدق هذه الكرامة ، أو هذه الحكاية ، قد تسميها أسطورة ، أو خرافة ، لكنها حقيقة ، اعترفت بها أو لم تعترف ، فهي مدونة في تاريخ المسبحة ، الذي ما زلنا نكتبه ، وجدي ( غيث ) اصبح وليا من أولياء الله ، له كراماته وبركاته ، وطريقته _ الطرقة الغيثية _
المهم ، أن هذه المسبحة أصبحت فيما بعد ميّزة لجدي وصار مميزا بها ، لقد كان يضرب بها على رأس المريض فيشفى، ينقر بها على موضع الألم فيختفي ، يهزها بوجه الكفيف فيرتد له بصره ، يفركها عند أذن الأصم فيسمع ، يلقيها في حجر العاقر فتلد بعد تسعة اشهر ، بل كان يلقيها نحو الخصوم فتتوجه نحو الكاذب أو السارق أو المذنب ، يمر بالبيادر فيلقيها فوق كومة القمح أو الشعير ، فإذا بهذه الكومة الصغيرة تملأ كل الخوابي التي أعدوها في بيوتهم وتزيد ، واكثر من ذلك أنها كانت تطفئ الحرائق ، وتنـزل المطر وتلطف الجو ، وتفجر الينابيع ، وتملأ الآبار ، لقد حاول أحدهم أن يسرقها لكنه ما إن وصل إلى بيته حتى افتقدها ، فتش جيوبه ، والأماكن التي يحتمل انه وضعها بها ، فلم يجدها ، فعاد يبحث في الطريق لعله أسقطها ، فلما وصل جدي وجدها في يده ، ولكن آخرَ _ وقد عرف أنها عصية على السرقة _ قرر أن يستعيرها ، وفي ذهنه أن يستبدلها ، لكنها لم تفعل فعلها المنشود ، فلم يجد بدا من إرجاعها .
انه كلام لم اخترعه ، انه مرقوم في تاريخ المسبحة ، انظر إلى هذه المخطوطة ، إنها مملوءة بالكرامات والأعاجيب ، والقصص التي سطرتها ، انظر إلى هذه المخطوطة أيضا ، إنها أوراد جدي وابتهالاته وادعيته وتسبيحاته التي كانت تفيض عليه وهو ممسك بها ، هذه المخطوطة ما زلنا نتوارثها جيلا بعد جيل ، نزمع طباعتها ، لكننا نخشى أن يقع بها الطابعون بأخطاء إملائية أو نحوية تفسدها، نحن نحرص أن لا يتغير بها حرف واحد ، ولو انه لا يستقيم مع قواعد اللغة ، كما أننا لم نوافق على أن يقوم طالب بالجامعة بتحقيقها لينال درجة الدكتوراه ، إنها اكثر قدسية من أن تستعمل لأغراض دنيوية .
أنا لا ادري كيف أقنعك بهذا القول ، فأنتم معشر الصحفيين قوم ماديّون، لا تؤمنون بالخوارق ، لذلك سوف تستخدمونها مادة للهزء ، لكن تأكد أن مسبحة سيدي البسطامي هذه مبروكة ، ولا يمكن أن تكون إلا في اليد التي ترضاها ، والشخص الذي تريده ، فعندما مات جدي غيث ، كان ولده سروج قد تشبع اللصوصية صغيرا ، وظل محترفا لها ، ففقدت المسبحة منه بعد أن ورثها ، وعبثا فتشوا عنها ، وظلت مفقودة أيضا في حياة حفيده زناد ، وابن حفيده فطيم ، لكنها وجدت في جيب غيث بن فطيم ، أحدهم لا يعرف كيف حدث هذا ، ولكنه حدث ، غيث هذا كان صالحا ، وظهرت الكرامات مرة أخرى . فكان يشفي بها المرضى والمجانين ، ويكثر الزرع والطعام ، بل كان يضعها تحت المخدة ، ويضمر أمرا يريده ، فإذا به يراه بالمنام ، كان يعرف موضع المسروقات، ومكان المفقودين والمشردين ومصير الغائبين والمسافرين ، بل يعرف اسهل الطرق وايسر السبل والمسالك ، يزود بها المسافرين ، ويعرف أيضا أين توجد الغلال الرخيصة والأمكنة التي تفتقر إلى مثل هذه البضائع ، كان يعرف تحرك الجراد ، ويعرف أين تمطر وأين تمحل ، وأين أماكن الصيد الوفير .
وفقدت مرة أخرى في عهد ولده مانع ، ولكنها ظهرت مع ولده غيث الثالث ، _ وغيث الثالث هذا هو جدي ، أي والد والدي ، لم بستطع أن يكتشف قدرات جديدة للمسبحة غير التي اكتشفها غيث الأول والثاني ، غير أن أحد الضباط الإنجليز الذين كانوا يحكمون هذه البلاد كان يستعملها للبحث عن الثوار ، ومخابئ الأسلحة ، جاء هذا الضابط يوما إلى جدي ، وقال له إن مسدسي قد ضاع ، هل تستطيع أن تعرف لي أين هو ؟ لم يشأ جدي أن يبخس المسبحة قدراتها أمام هذا الكافر ، أضمر في نفسه ونام ، وحينما أفاق قال له إنها على جانب طريق ، قرب عبارة ،وثلاث شجرات زعرور ، ذهب الضابط إلى هناك ، فوجده كما اخبره ، فجاء إليه يشكره ، ويقدم له هدية ، وأعلن انه سيكون من اتباع الطريقة الغيثية ، وأعلن انه سيغيّر اسمه من غيشر إلى غيث ، وهكذا اصبح هذا النصراني ببركة هذه المسبحة مسلما، وداوم على حضور مجلسه وحلقات ذكره ، وآمن هذا الإنجليزي بكرامات جدي وبركاته ، ومعجزات المسبحة ، فكان يسأله عن عدد البنادق في قرية ما ، فيفك خيطها ، ويلقيها ، فإذا ما سقطت عشر حبات قال هناك عشر بنادق ، فيذهب إلى القرية ويفتشها فيجد عشر بنادق ، وبنفس الطريقة يعرف عدد الثوار في بلد ما ، أو موقع معين ، أنت الآن تتساءل وتتهم المسبحة بالتواطؤ والخيانة وخدمة المستعمرين ، وتتهم جدي غيث بالعمالة ، بالعكس ، لم يكن من همِّ جدي ذلك ولا فكّر به ، كان صادقا ومخلصا ، حتى مع الأعداء ، لم يستطع أن يكذب أو يمتنع عن الصدق ، ولو كان يعرف عاقبة هذا الصدق .
وبقدر ما تشترط هذه المسبحة أن يكون حاملها اسمه غيثا ، فإنها تشكله على هواها ، وفق إرادة معينة كأنها القدر ، لقد احب والدي _ غيث الرابع _، أن يكون حدادا ، ويبدو أن الحدادة تستهلك وقته وتلوث يديه وثيابه ، فلا يكون قيما مناسبا عليها ، ولا متفرغا للذكر والعبادة ، فحدث أن أقفلت المحددة التي راح يتعلم بها بعد شهرين ، فغادرها إلى محددة ثانية، فاحترق صاحبها ومات ، وحاول مرة ثالثة ، فسقط فيها والدي من شباك ، وكُسر حوضه ، وما عاد قادرا على المشي والحركة، فأجلسته المسبحة خادما ، يظهر معجزاتها وكراماتها الكثيرة .
أما أنا غيث الخامس ، فقد كنت متفوقا في دراستي الثانوية ، كنت انوي أن أكون طبيبا ، وكدت افقد إيماني بما نتناقله عن هذه المسبحة ، لأن الأمور كانت تسير وفق إرادتي ، إلى أن توفي أبي ، غيث الرابع ، وأنا في بداية السنة الثانية ، عندها ما عدت أطيق الجامعة ولا الكتب ولا الدراسة ولا مهنة الطب ، وفقدت القدرة على الفهم و الحفظ، عدت إلى البيت وأنا أومن أني حلقة في سلسلة ممتدة إلى ما شاء الله ، قدر اسبح في تياره ، مكملا كتابة هذا التاريخ العظيم ، الذي ما زلنا نكتبه منذ قرنين أو يزيد ، وما زلنا نضيف إليه الكثير من الورق والكرامات .
اعرف انك تريد مني برهانا ، تريد أن أقوم أمامك بمعجزة ، كي اثبت لك صدق هذه الأقوال والإدّعاءات ، انها عملية صعبة جدا ، لأني لو ضربت بها على رأسك وشفيت من ألمك ، لعزوت ذلك إلى جهاز المناعة الفعال ، وليس ببركة المسبحة ، ليس هذا فقط ، بل ما كانت تفعله من أعاجيب ، ما عادت أعاجيبَ ولا أمنيات ، انظر هذه الفواكه والخضار والغلال ، تنوء بقدرة القاطفين ، ما عاد أحد يطلب البركة لصليبة القمح ، فالآلات تبذر وتحصد وتعبئ بالأكياس ، والقمح من السلع المدعومة ، والأقمار الصناعية تخبرك عن كل حدث فور وقوعه ، دوائر الأمن يمكن أن تعد عليك أنفاسك تتكلم مع أي شخص في أي مكان في العالم ، تفطر في بلد وتتغدى في بلد وتتعشى في بلد ثالث ، يستنسخونك كفقاعات الصابون ، أي معجزات تريدها غير هذه المعجزات ؟
إذن ، فالعجز لم يعد في هذه المسبحة ، بل في قدرتك على تخيل المعجزات ، قديما كانوا يحلمون بالصحة والقوة والخصب والمال الوفير ، يحلمون بالسفر البعيد ، والمعرفة الخفية ، واكتشاف الأسرار ـ والتحليق في عالم أسطوري غريب ، لا يخضع لعقل أو منطق ولكن قل لي ماذا يدور في ذهنك الآن ؟ ماذا تتمنى ؟ هل تحلم بمعجزة جديدة ، هل تحلم بقدرات ومطالب لا تستطيع تحقيقها ؟
حينما يجنح بك الخيال وتشتط بك الأماني ، وترى أنك محتاج إلى معجزة ، فاعلم أن هذه المسبحة قادرة على تقريب أحلامك.